Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حيدر رشيد يصور مأساة العابرين من عالم إلى آخر

فيلم "أوروبا" يطرح أسئلة اللجوء إلى أرض المهانة

أجواء النزوح إلى أوروبا (الخدمة الإعلامية)

سينما الهجرة واللجوء إلى أوروبا تحولت ظاهرة بالغة الأهمية طوال العقد الماضي، خصوصاً بُعيد الربيع العربي والثورة السورية. فن الشاشة له أكثر من وظيفة، واحدة منها تعليق على الأحداث. لذلك، لم يكن ممكناً صرف النظر عن واحدة من أكبر المآسي التي عصفت بمطلع القرن الحالي: الهجرة إلى مناطق أكثر أمناً بحثاً عن وطن جديد، وهي المحنة التي ضربت عبر التاريخ عدداً لا يُحصى من الشعوب. هذه الأفلام التي حملت تواقيع عرب وأجانب، لها ما لها وعليها ما عليها ويصعب مناقشتها هنا لإصدار حكم مبرم في شأنها. فهي سينما تتراوح طموحاتها بين الدعاية السياسية والرغبة في جذب الانتباه النبيل إلى قضية.

وكما يُقال القضايا المهمة لا تصنع بالضرورة فناً كبيراً. لكن مع "أوروبا"، يأتي حيدر رشيد بشيء آخر. شيء مختلف عن كل ما سبق أن شاهدناه في هذا النوع من الأفلام الملتزمة بقضية الفرار إلى الغرب. وهذا طبيعي لأنه هو نفسه (المخرج) لا يشبه أحداً. فهو ابن ثقافتين، من أب عراقي مهاجر وأم إيطالية، ولو أني أميل إلى الاعتقاد بأن فيه من إيطاليا أكثر بكثير من العراق، لأن الأخير هو المكان الذي لم يعرفه ولم يعش فيه، بل هو أرض والده الذي تشرب بعضاً من مآسيها منذ الصغر. أما إيطاليا فهي وطنه النهائي، ومربط خيله، والبلد الذي مدّه بحب السينما. يروي الناقد زياد الخزاعي عنه أنه نشأ "بين مهاجرين ونازحين ومتغربين كثر، أغلبهم أهل صنعة إبداع، من فنانين تشكيليين ومسرحيين وكتاب وصحافيين، يملكون حكايات خيباتهم السياسية، وهموم توطينهم الملتبس، وغضب فرصهم المغدورة، وشجن خساراتهم التي تتوالى في حياتهم كقدر وحشي لن ينتهي، أو في الأقل لن يبور.

نشأة إيطالية

توازى هذا العالم مع نشأة الابن حيدر. يسمع قصصها ويرتب خيالاتها. يحفظ وجوه عابريها…". هكذا تبلور وعي الطفل الذي أصبح في السابعة والثلاثين اليوم، وهو كان بدأ باكراً في السينما وأنجز حتى الآن عدداً من الأفلام الروائية والوثائقية. كان من الممكن أن يتجه إلى تصوير هموم جيله في إيطاليا، بمعزل عن أصوله، إلا أن نداء الجذور كان أقوى. 

الفيلم عُرض في الأصل داخل قسم "أسبوعا المخرجين" في مهرجان "كان" السينمائي الأخير، قبل أن يستعيده "البحر الأحمر السينمائي" في دورته الأولى، حيث نال جائزة أفضل مخرج من يد المخرج الإيطالي الشهير جوسيبي تورناتوري. ورشحه العراق لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، لكن لم يصل إلى النهائيات. ينبغي القول إنه كان من الصعب منافسة أفلام قوية مثل "قودي سيارتي" أو "أسوأ إنسان في العالم". 

يمهد حيدر رشيد لفيلمه على هذا النحو على الشاشة: وصول المهاجرين إلى الحدود ما بين أوروبا وتركيا منظم من قبل تنظيمات إجرامية، بالتعاون مع قوى شرطة الحدود وموظفين كبار في الدولة. ويتعرض المهاجرون الباحثون عن الأمان إلى العديد من عمليات القهر والاغتصاب على يد من يفترض بهم أن يكونوا حماة للقانون، فإذا هم يستغلون المهاجرين بالعنف والتهريب ويطردونهم إلى ما وراء الحدود الأوروبية. وتتم مراقبة الغابات الواقعة على الحدود من جماعات مسلحة ومنظمة لجماعات مدنية وقومية تطلق على نفسها اسم "صيادي المهاجرين". رجال ونساء يواجهون الموت كل يوم على أمل الحصول على حياة جديدة. 

مقاربة محنة الهجرة

يختار حيدر رشيد في "أوروبا" مقاربة جسدية لمحنة المهاجر. لا تباكي في فيلمه، ولا شحذ تعاطف، بل الواقع الجاف، النيئ، الفج، الصادم، المباشر، بلا ماكياج. لا كلام نسمعه سوى بعض التمتمات التي توصل كل ما يجب إيصاله. ذلك أن التجربة التي يزجنا فيها الفيلم هي تجربة انغماسية. فنحن المشاهدين، لن يمر وقت طويل قبل أن نشعر بأننا توحدنا مع الشاب العراقي كمال (آدم علي) الذي يعبر الحدود في اتجاه أوروبا حيث يرى خلاصاً لذاته. التجربة هذه هي انغماسية وحسية أيضاً. يمنع الفيلم الحوارات للمزيد من التواصل مع روح الشاب الذي ما إن يضع قدميه في أرض الميعاد الأوروبية حتى يصبح مطارداً من الذين يريدون إعادته إلى حيث جاء منه، أو ربما تصفيته جسدياً كما يفعلون مع غيره. الصراع من أجل البقاء لا ينتهي مع عبور الحدود لا بل يزداد. لهذا السبب يحرص الفيلم على التقاط لهاثه والبقاء قريباً منه. الكاميرا تتعقبه خطوة خطوة وتبقى قريباً من جسده النحيل في مجموعة الامتحانات التي سيمر بها. الغرب أرض الحرية والكرامة الإنسانية، لكن الغربيون يريدون من اللاجئ أن يقدم ما يؤكد أنه يستحق هذه الأرض، ويريدونه تأكيداً جسدياً، غرقاً في عرض البحر أو مقتولاً في غابة. الجسد يدفع ثمن كل شيء. هذا ما فهمه حيدر رشيد جيداً، هو الذي سبق أن قدم فيلماً في عنوان "مطر وشيك" عن ترحيل جزائري من إيطاليا، وهو الذي روى مرة أنه تعرض لتدقيقات غير مبررة من الشرطة أثناء عبوره من مطار تسالونيك. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفيلم على قدر من البساطة على غرار الموضوع الذي يتناوله. لم يحتج إلى موسيقى، بل اكتفى بحفيف الورق وزقزقة العصافير وخرير المياه ولهاث كمال الذي يقول حكايته كلها، هذا اللهاث الذي يمكن اعتباره الكلام الوحيد الممكن في هذا العبور الثقيل والقاتل. يحصر الفيلم الأصوات في هذه البيئة، أما الصورة فهي غنية وتستمد قوتها من العناصر الطبيعية الموجودة في كل مكان.

هناك في المقابل أسئلة غامضة في شأن كمال لا نعرف عنها شيئاً، يتركها الفيلم عالقة ليعزز من خلالها صورة نمط معين من اللاجئ الذي لا تحاصره هوية في ذاتها، بل هو خلاصة مآسٍ وسياسات وتجارب أراد الفرار منها. من أين يأتي هذا الكمال وما آماله وتوقعاته بعد عبور الحدود؟ سؤالان لا يبدو أن الفيلم منشغل بهما، ذلك أنه ينوي الابتعاد قدر الإمكان عن الحكاية بمعناها التقليدي لمصلحة التجربة الحسية والمعيشة في لحظة عبور اللاجئ من عالم إلى عالم، وذلك بتفاصيلها المغروسة في جب الأرض والمطلة عليها من السماء. 

أوروبا التي سيدخلها كمال وصولاً إلى محطته الأخيرة، ليست أوروبا التي نعرفها. ليست شارع كروازيت في مهرجان "كان" حيث عُرض الفيلم، بل هي أرض المهانة التي قد تتحول أيضاً إلى مقبرة. لوهلة، قد يبدو المشروع سهلاً وديماغوجياً ويخاطب فئة من الغاضبين في العالم، لكن العكس هو الصحيح. لا يبحث الفيلم عن أي تعاطف ظرفي مجاني عابر. في زمن توثيق الحكايات وتحديد مصادرها، يقدم رشيد فيلماً يؤمن أولاً بلغة السينما لنقل عذابات كمال. وهذا يحتاج إلى أن يثق المخرج في قدراته، الشيء الذي لا ينقص حيدر، فهكذا عرفناه منذ بداياته. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما