Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الألماني جوزيف بويس يعتمد الفن وسيلة لإيقاظ الذاكرة

معرض فرنسي يستكشف أهمية رسومه في بلورة فكره ومفاهيم تجربته

الرسام الالماني جوزيف بويس (الخدمة الإعلامية)

في المشهد الفني الحديث، يحتل الألماني جوزيف بويس (1921 ــ 1986) موقعاً خاصاً سواء بشخصيته الفريدة أو بطبيعة فنه. بشخصيته لأنه جعل منها جزءاً لا يتجزأ من مفهوم عام يتناول الإبداع كعملية تطوير وعي فني واجتماعي وسياسي، يؤدي الفن فيها وظيفة أساسية كسيرورة. من هنا قوله المعروف: "الفعل التشكيلي الحقيقي الوحيد يتمثّل في تنمية وعي البشر". وبفنه لأنه استوحى داخله مباشرةً من بعض فصول حياته، وسعى بالتالي إلى إنجاز ذلك العمل الفني الكلّي الذي يشمل حياته، نشاطه الإبداعي وموقعه كإنسان داخل المجتمع.

وأيضاً لأن هذا الفنان المعروف كنحات، غالباً ما مارس فنه على شكل محاضرات وأداءات وابتكار أحداث عفوية صادمة في الفضاء العام، مثيراً في طريقه كماً من الفضائح، فاتهمه بعض النقاد القصيري النظر بممارسة شيء لا علاقة له بالفن، وفاتهم أن طريقة عمله هذه كانت وسيلة لنقل رسالته وبلوغ هدفه: إيقاظ البشر على آفاتهم، وعلى المخاطر التي تتهددهم بسببها. طريقة تبررها قناعته بأن الفن هو الحياة نفسها، وممارسته أهم من الثمار التي يفضي إليها.

خط وورقة

جديد هذا الفنان اليوم معرض بعنوان "بويس، من خط إلى خط، ومن ورقة إلى ورقة"، ينظمه له "متحف باريس للفن الحديث" في مناسبة حلول مئوية ولادته، ويكشف جانباً مجهولاً من عمله، الرسوم. مبادرة مهمة حين نعرف أن بويس أنجز خلال حياته أكثر من عشرة آلاف رسم على شكل استكشاف لأشكال ورموز لا تحصى، وأيضاً كمدوّنات (partitions) لأفعال وتجهيزات، أو كمخزن لأفكار كان يعيد استثمارها لاحقاً داخل أعماله الأخرى. رسوم تكمن أيضاً قيمتها في مقاربة صاحبها فيها الموضوعات التي تتواتر داخل عمله (الحيوانات، العلاقة بالطبيعة، التحوّل الدائم للكائن الحيّ...)، وتعكس تأثره بمواطنه رودولف شتاينر، وريث روحانية غوته والرومنطيقيين الألمان.

الصالة الأولى من المعرض مرصودة للرسوم التي تنتمي إلى حقب وأحجام وموضوعات مختلفة، ووضعها بويس في حوار داخل معارض أو كتب. أعمال تعامل الفنان معها كأدوات لسبر العالم ونفسه، مثل السلسلة التي منحها عنوان "زمن التداول"، وهو مصطلح اقتصادي يحدد الفترة التي يتم خلالها تداول رأس مال على شكل سلعة، من دون ربح مالي، قبل تحويله من جديد إلى رأس مال. رسوم لبشر وحيوانات تبيّن وضعه الرهان الاقتصادي في قلب تأمله في قيمة الفن ودوره كوسيلة لانتقاد الرأسمالية ومحاربتها.

في رسوم الصالة الثانية التي تحمل عنوان "لقاءات مع حيوانات"، يتبيّن لنا شغف بويس بالحيوانات وبـ "قدرتها الغرائزية المدهشة على إدراك النفْس والتوجه بدقة داخل الفضاء"، واحتلالها موقعاً مركزياً في عالمه المفاهيمي، خصوصاً تلك المألوفة لديه، كالنحل والغزلان والأيائل والدبب والماعز والأغنام والبجع والإوز والبط والأرانب والذئاب. كائنات تمثّل في نظره "الحياة بكل ثرائها"، وبالتالي "قوة حيوية سحقها المبدأ التكنولوجي وجعل منها أولى ضحايا ما يسمّى حضارتنا".

الجسد والأرض

في الصالة الثالثة التي تحمل عنوان "خطوط الجسد"، تحضر نماذج من الرسوم التي رصدها بويس لقامات بشرية وتعكس اهتمامه الشديد بالفرد ككائن مفكّر يرتبط ببيئته ويتملكه هاجس التواصل مع الآخرين. رسوم نشاهد فيها أجساد بشرية في حالة حركة، وتقارب في موضوعاتها ثنائيات مثل الرابط والعزلة، المتحوّل والثابت، الجدّ واللعب، الحياة والموت.

وتحتل الصالة الرابعة، التي تحمل عنوان "خطوط أرضية"، نماذج من سلسلة "رسوم جبلية" التي استكشف بويس فيها موضوع المنظر الطبيعي، وتبدو الطبيعة داخلها عذراء، خالية من أي حضور بشري أو حيواني أو حتى نباتي، ما يعكس توق الفنان إلى تمثيل المشهد الطبيعي ككُلٍّ. رسوم تستحضر إلى أذهاننا تارةً زلازل وطوراً الطاقة التلورية للأرض وتشنجاتها الداخلية، كما تستحضر أحياناً بخطوطها مناظر طبيعية بشرية الشكل.

مواد نباتية

وفي الصالة الخامسة التي تحمل عنوان "مواد نباتية"، يتضح لنا أن بويس سعى طوال مسيرته الإبداعية إلى تجسيد مبدأ النمو والتحوّل داخل الطبيعة في ملصقات تتألف من مواد نباتية مجففة ومضغوطة. أعمال ليست مجرد توثيق لعالم الطبيعة ونباتاتها، بل تشكّل تأملاً عميقاً في جوهر المادة الطبيعية والخصوصيات الشفائية للنباتات الماثلة فيها، بالتالي محاولات ناجعة من أجل تمنية وعي إيكولوجي بواسطة الفن. ويرتبط عدد من هذه الأعمال ببعض مشاريعه الكبرى، كذلك الذي قاده إلى زرع سبعة آلاف شجرة وشجيرة مهددة بالانقراض في إقليم أبروتسو الإيطالي خلال السبعينيات والثمانينيات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الصالة الأخيرة من المعرض فمرصودة لمفهوم "المنحوتة الاجتماعية" الذي طوّره بويس على امتداد مسيرته الفنية، ويعكس رؤيته في مجمل إنجازاته وتقديمه أعمالاً تندرج ضمن فن النحت. ولا عجب في ذلك، ففي آخر حوار معه، أوضح: "في هذا الفن يمكننا أن نفعل شيئاً ما. كل شيء نحت!". وعموماً، ارتبط عمله كنحات ارتباطاً وثيقاً برسومه التي شكّلت مصدره والحاضنة التي تطوّر داخلها نهجه الفني ككُل. وهو ما أكّده بنفسه في قوله التالي: "من رسوماتي انبثقت المفاهيم ونظريتي الخاصة في فن النحت".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبارة "منحوتة" يمكن أن تحمل مع بويس معانٍ مختلفة. وفي هذا السياق، دعا إلى عدم رؤية أعمال ببُعدين في رسومه على الورق ، نظراً إلى قدرتها التجسيدية، وإلى إنجازه إياها بمواد مختلفة تتمتع بخصائص أو رمزيات مختلفة: بلورية أو هلامية، باردة أو ساخنة، صلبة أو سائلة... أما اقتناعه بأن كل عمل فني هو بطريقة ما منحوتة، فلكونه "يلهم الفكر ويشكّل نقطة انطلاق لنقاش حول علاقات القوة الكثيرة الفاعلة داخله". وهذا تحديداً ما يمنح رسومه المعروضة حالياً كل أهميتها، فعلاوةً على تشكيلها ركائز تعكس جوانب أساسية من فكره، تحثّنا على التأمل في ذلك الرابط بين الفن والحياة، من جهة، وعلى إلغاء الحدود التقليدية الضيقة بين الأنواع الفنية، من جهة أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة