عشية بدء غزوه الدموي، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطاباً طويلاً غير مترابط ينفي فيه وجود أوكرانيا والأوكرانيين، وهو خطاب وجده العديد من المحللين الغربيين غريباً وجامحاً. كانت الكلمة غريبة، هذا صحيح، لكنها لم تكن جامحة. فهذا الفكرة التي طرحها بوتين مستمدة مباشرة من أعمال داعية فاشي ينادي بإمبراطورية روسيّة عظمى هو ألكسندر دوغين.
يعرف دارسو فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي جيداً التأثير الفكري لـ دوغين البالغ من العمر 60 سنة على الزعيم الروسي، حيث يسمونه في بعض الأحيان "عقل بوتين". كما أن عمله مألوف أيضاً بالنسبة لـ "اليمين الجديد" في أوروبا، حيث يعتبر دوغين شخصية بارزة منذ نحو ثلاثة عقود، وكذلك بالنسبة لـ "اليمين البديل" في أميركا. في الواقع، قامت نينا كوبريانوفا، الزوجة السابقة المولودة في روسيا للزعيم القومي الأبيض ريتشارد سبنسر بترجمة بعض أعمال دوغين إلى اللغة الإنجليزية.
نتاج الانحدار السوفياتي
لكن بينما يراقب العالم برعب واشمئزاز القصف العشوائي لأوكرانيا، هناك حاجة إلى فهم أوسع لأفكار دوغين القاتلة. يقول ديفيد فون دريل في صحيفة "واشنطن بوست" إن روسيا كانت تنفذ مخططاته على مدار العشرين عاماً الماضية، وقد أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، على شفا حرب عالمية أخرى.
دوغين الذي يعد نتاجاً للانحدار الذي شهده الاتحاد السوفياتي في أواخر عهده، ينتمي إلى مجموعة كبيرة وكئيبة من المنظرين السياسيين الذين اختلقوا ماضياً قوياً ومجيداً - مشبعاً بالروحانية ومطيعاً للسلطة - لتفسير الحاضر الفاشل. يكمن المستقبل في استرداد هذا الماضي من الحاضر الليبرالي والتجاري والأممي (الذي يمثله اليهود في الغالب). كان مثل هؤلاء المفكرين يعيشون مجدهم قبل قرن من الزمان، في أوروبا المحطمة بعد الحرب العالمية الأولى، من أمثال يوليوس إيفولا: الفيلسوف الروحاني المولع بالفاشية الإيطالية، تشارلز موراس: القومي الفرنسي الرجعي، وتشارلز كوغلين: الكاهن ومقدم البرامج الإذاعية الأميركي، وحتى هتلر شخصياً.
يكرر دوغين الموال نفسه ولكن بنغمة روسية. فقبل أن تدمر الحداثة كل شيء، وعد الشعب الروسي المدفوع بالروحانية بتوحيد أوروبا وآسيا ضمن إمبراطورية كبيرة واحدة، بقيادة من أصل روسي هي الأنسب لحكمها. للأسف، قامت إمبراطورية منافسة يحكمها أفراد فاسدون وجشعون، تقودهم الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، بإحباط مصير روسيا والتقليل من إمكانية صعود "أوراسيا" - المصطلح الذي أطلقه دوغين على الإمبراطورية الروسية المستقبلية.
توصيات دوغين
في أعظم مؤلفاته "أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا"، الصادر عام 1997، رسم دوغين بالتفصيل خطة اللعبة. يجب على العملاء الروس إثارة الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية داخل الولايات المتحدة بينما يروجون للفصائل الانعزالية في الولايات المتحدة. (هل يبدو هذا النهج مألوفاً؟) وفي بريطانيا العظمى، يجب أن تركز جهود العمليات النفسية على تضخيم الخلافات التاريخية مع قارة أوروبا والحركات الانفصالية في اسكتلندا وويلز وإيرلندا. في غضون ذلك، يجب أن تنجذب أوروبا الغربية نحو روسيا من خلال إغراء الموارد الطبيعية: النفط والغاز والغذاء. بالتالي، سينهار الناتو من الداخل.
اتبع بوتين تلك التوصيات حرفياً، ولا بد أنه شعر أن الأمور تسير بالاتجاه الصحيح عندما رأى مثيري الشغب يحطمون النوافذ في أروقة الكونغرس الأميركي، وبريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي وألمانيا تعتمد بشكل متزايد على الغاز الطبيعي الروسي. مع نجاح تقويض الغرب، رجع بوتين إلى نصوص دوغين التي يقول فيها: "تمثل أوكرانيا كدولة مستقلة ذات طموحات إقليمية معينة خطراً هائلاً على كل أوراسيا... من دون حل مشكلة أوكرانيا، يعد التحدث عن السياسية القارية أمراً عبثياً بشكل عام".
إذن، ما الذي سيحدث بعد ذلك لو نجح بوتين في "حل مشكلة" روسيا في أوكرانيا؟ يتصور دوغين وقوع تقسيم تدريجي لأوروبا إلى مناطق نفوذ ألماني وروسي، مع سيطرة روسيا إلى حد كبير بفضل تحكمها النهائي باحتياجات ألمانيا من الموارد الطبيعية. وبينما تنهار بريطانيا العظمى وتقوم روسيا بردء الصدع، ستتوسع إمبراطورية أوراسيا في نهاية المطاف "من دبلن إلى فلاديزفوستوك [في أقصى شرق روسيا]" على حد وصف دوغين.
كما أن التجاوزات المخادعة لـ بوتين في الشرق الأوسط متأثرة بفكرة دوغين حول محور موسكو - طهران. وإغواؤه للحكومة القومية في نيودلهي هو انعكاس لإصرار دوغين على أن الإمبراطورية الأوراسية يجب أن تمتد إلى المحيط الهندي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جنون العظمة الغامض
وكما هو مهم أن يأخذ صناع القرار الغربيون جنون العظمة الغامض لدى دوغين على محمل الجد، فإنه بنفس القدر من الأهمية بالنسبة لـ شي جين بينغ في الصين. أعلن شي وبوتين عن شراكة الشهر الماضي لإظهار قوة الولايات المتحدة على حقيقتها. لكن وفقاً لـ دوغين، يجب أن تسقط الصين أيضاً. يقول إن طموحات روسيا في آسيا ستتطلب "تفكيك الأراضي، والانشقاق، والتقسيم السياسي والإداري للدولة [الصينية]". وبرأيه، اليابان هي الشريك الطبيعي لروسيا في الشرق الأقصى.
بعبارة أخرى، يمكن تلخيص نهج دوغين المكون من 600 صفحة بفكرة واحدة: لقد انتصر التحالف الخاطئ في الحرب العالمية الثانية. لو لم يقم هتلر بغزو روسيا، لكان من الممكن تحطيم بريطانيا. لما كانت الولايات المتحدة قد تحركت خارج أراضيها وبقيت انعزالية ومنقسمة، ولكانت اليابان ستحكم الصين السابقة باعتبارها الشريك الأصغر لروسيا.
إذن، هل تعد الفاشية الممتدة من إيرلندا إلى المحيط الهادئ، وهماً؟ بالتأكيد نأمل ذلك، لكن الأوهام تصبح مهمة عندما يحتضنها الطغاة. وهذا الوهم من رسم دوغين الذي قال في مقابلة أجراها نهاية السنة الماضية إن روسيا هي بوتين وهو الذي يحدد كل شيء في السياسة، مختتماً حديثه بالقول إن في بلاده "القانون لا شيء والحاكم هو كل شيء".