Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين زار تشيخوف "جزيرة ساخالين" وطلع بكتاب مهّد للثورة

ثلاثة أشهر في مستوطنة العقاب التي سبقت منافي الغولاغ ومهدت لجحيمه

تكبيل السجناء في جزيرة سخالين تسعينيات القرن التاسع عشر والتي زارها تشيخوف عام 1891 (غيتي)

هناك في الأدب الروسي المعاصر نوع كتابي يمكن تعريفه بـ"أدب الغولاغ" يكاد لا يدنو منه أي أدب مشابه في العالم باستثناء ما يعرف بالأدب المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين بـ"أدب السجون"، وكان رائده في مصر الكاتب الراحل شريف حتاتة الذي كتب عن تجاربه في المعتقل السياسي أعمالاً بارزة ومميزة. غير أن ليس ثمة في أية آداب أخرى ما يضاهي "أدب الغولاغ" الذي ذاع صيته وانتشرت نتاجاته طوال القرن العشرين بل أسهم عند أواخر القرن في انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه، لا سيما بفضل أعمال تراوحت بين "دكتور جيفاغو"، (مع أن لا علاقة له بالغولاغ) لبوريس باسترناك، وروايات ألكسندر سولجنتسين الكبرى وأبرزها بالطبع "أرخبيل الغولاغ".

أزمنة قمع روسية وفيرة

ولئن كان معظم نتاجات هذا النوع ومنها أعمال ترجمت إلى لغات كثيرة، قد عبر عن تجارب عاشها الكتاب أنفسهم تحت ربقة الدكتاتورية الستالينية خاصة، فإن ثمة في الوقت نفسه أعمالاً تناولت تجارب عامة بشكل اختلطت فيه الأمور ببعضها بعضاً، وساد اعتقاد راسخ لدى كثر بأن أدب الغولاغ إنما يخص المرحلة الستالينية بشكل أساسي. ولكن من المؤكد أن الذين يقولون هذا ينسون أعمالاً كثيرة تتحدث عن الغولاغ، ولكن بأسماء مختلفة، ولا تتعلق بالزمن الستاليني ولا حتى بزمن لينين وبدايات الثورة البولشفية. فينسون بخاصة كتاب دوستويفسكي العمدة في هذا المجال "ذكريات من بيت الموتى" كنموذج للكتابة عن التجربة الذاتية أي تلك التي عاشها دوستويفسكي نفسه في سيبيريا يوم استبدل القيصر حكماً بالإعدام عليه بحكم ينفيه إلى أصقاع سيبيريا. ولكن ينسون كذلك، في ما يخص موضوعنا هنا، كتاباً لمبدع لا يقل أهمية وتأثيراً عن دوستويفسكي هو طبعاً أنطون تشيخوف، الذي تناول من ناحيته "الغولاغ" ولكن من خلال تجربة عاشها كمراقب لا كمحكوم.

حياة واقعية في جزيرة منسية

وما نتحدث عنه هنا هو كتاب تشيخوف "جزيرة ساخالين" الذي يمكن اعتباره أكثر كتبه غير المسرحية شهرة لا يضاهيه في ذلك سوى روايته "العنبر رقم 6" التي يرى كثر من النقاد أنها إنما بنيت كرواية انطلاقاً من ذلك التحقيق الصحافي الطويل الذي كانه كتاب "جزيرة ساخالين" والذي انطلق تشيخوف في تأليفه كعمل يتابع الحياة في تلك الجزيرة الواقعة إلى أقصى الشرق من سيبيريا في المياه الفاصلة بين روسيا واليابان والتي اعتادت اليابان أن تطالب بها بوصفها جزءاً من ترابها الوطني، غير أن هذا النزاع ليس موضوعنا هنا. موضوعنا هو الظروف والدوافع التي حدت بصاحب "الخال فانيا" و"الشقيقات الثلاث" و"القسيس الأسود" للتوجه للإقامة شهوراً في تلك الجزيرة من دون أن يكون ذلك لخلفيات قضائية. فالحال أن تلك الخلفيات كانت في أساس تحول ساخالين إلى منفى مسوطنة عقاب ترسل إليها السلطات القيصرية عند نهايات القرن التاسع عشر، المجرمين المحكومين ليعيشوا نوعاً من مناف "إصلاحية" تبين في نهاية الأمر، وتحديداً منذ نشر تشيخوف كتابه هذا أنها ليست إصلاحية ولا يحزنون بل هي سجن واسع يعاقب فيه النزلاء بأقصى ما يمكن بحيث أن كثراً منهم كانوا يتمنون لو استبدل الحكم عليهم بالإعدام لكان أهون.

في المعتقل على سجيته

أو هذا ما ينقله تشيخوف في ذلك النص الطويل القاسي والمرير، عن بعض الذي اعتاد اللقاء بهم خلال تجوالاته في الجزيرة خلال عام 1890 وكان في الثلاثين من عمره معتل الصحة يوم أمضى ثلاثة أشهر يكتب تحقيقات حول أوضاع الجزيرة ومحكوميها لحساب صحيفة كان يتعاون معها. لكن ما يجب قوله هنا إن تلك الصحيفة وهي "الفكر الروسي" التابعة لمجلة "الأزمنة الجديدة" التي كان يديرها صديقه الكاتب سوفورين والتي سوف تنشر رسائله من الجزيرة على حلقات أسبوعية، لم تكن هي من كلفه بالمهمة، بالتالي لم تتمكن من تزويده بأية توصيات كما لم تتمكن من أن تحصل له على إذن حكومي خاص. ومن هنا سنراه قبل انقضاء ثلاثة أشهر على وصوله إلى الجزيرة يطالَب رسمياً بأن يبارحها هو الذي كان دافعه الرسمي كما أبلغ السلطات، "وفاء دينه لدراسته الطبية ومعاونة المحكومين على تجاوز أوضاعهم الصحية بالغة السوء". والحقيقة أن تشيخوف، عدا عن ذلك الدافع الذي بدا غامضاً حينها وغير مقنع في نهاية الأمر، لم يتمكن من العثور على ما يبرر حقاً وجوده في تلك الجزيرة. لكن ذلك الوجود ولو لأسابيع مكنه من أن يكتب عن أهوال لا إنسانية وعن حالات مرعبة عايشها بنفسه بشكل صحيح أنه صوره بقوة في الحلقات التي نشرها في صحيفة سوفورين، لكنه عجز بعد ذلك عن جمعها في كتاب كما كان يريد وظل عاجزاً عن ذلك حتى رحيله لينشر الكتاب الممتد على نحو 580 صفحة بصيغته الكاملة، فقط بعد رحيله ومن ثم ينتظر عقوداً حتى تبدأ ترجمته إلى لغات أخرى. بل ربما انتظر انتشاره أن يتحدث عنه الكاتب فارلام شالوموف الذي يعتبر من أقوى وأقسى كتاب "الغولاغ" وأشدهم شعوراً بالمرارة في كتابه "حكايات من كوليما" الذي بدا فيه وكأنه يسائل كتّاب "الغولاغ" الآخرين السابقين عليه، وعلى رأسهم دوستويفسكي وتشيخوف نفسه وباستنكار عما رأوه أو عاشوه حقاً في الغولاغ.

بيانات سوسيولوجية

مهما يكن من أمر، لا شك أن التجربة "الغولاغية" التي عايشها تشيخوف ولو مراقباً متفرجاً في جزيرة ساخالين، كانت التجربة الأكثر قسوة التي عايشها في حياته. لكنه لم يبد على الإطلاق نادماً على خوضها أو على ابتعاده نحو 8000 كلم عن العاصمة وهو عاجز عن تلمس أي سبب حقيقي يدفعه إلى ذلك، هو الذي كان لا يفتقر إلى الشهرة التي كانت قد أمنتها له مع ما يمكّنه من العيش المريح، مسرحيات مثل "إيفانوف" ونصوص روائية مثل "السهوب" كانت تلقى إقبالاً كبيراً. غير أن أطرف وأغرب ما في هذا النص، أو بالأحرى في صيغته الأكثر اكتمالاً، هو تلك الصفحات العديدة التي كرست لنشر بيانات استقصائية طرح خلالها تشيخوف مجموعة من الأسئلة الشخصية على مئات المحكومين تتعلق بأوضاعهم المعيشية وسبب وجودهم هنا، ولكن أيضاً برأيهم في ما يلقونه من معاملة السلطات لهم من النواحي الصحية والاجتماعية، ولقد أتت الإجابات التي نشرها تشيخوف كما هي من دون أي تعليق من جانبه متفاوتة لكن كثرة من المحكومين ولا سيما منهم الذين أجابوا بأنهم، مثلاً، يحسنون القراءة، أجابوا أن الحيوانات هنا تعامل أفضل مما يعاملون. ولعل اللافت هنا أمام وفرة الإجابات التي تكرر هذا، أن تشيخوف لا يعلق تاركاً قراءه يستنتجون المواقف التي يشاؤون. ولئن كنا نعرف أن كتابات تشيخوف التالية، مسرحية كانت أو غير مسرحية، عرفت بين الحين والآخر، كيف تعبر عن مواقف تنحو إلى مثل هذا الاستنتاج الغائب عن "جزيرة ساخالين" فإننا نعرف أيضاً أن ثمة من بين متناولي سيرة أنطون تشيخوف لاحقاً، من أشار إلى أثر كان لهذا الكتاب نفسه في الوعي الفكري الذي سيسهم بعد حين في اندلاع ثورة الروس الأولى في القرن العشرين، ثورة العام 1905، التي تعتبر عادة "البروفة العامة" لثورة 1917 البولشفية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جنة نظرية لجحيم عملي

ومن ناحية ترتبط بالبعد السوسيولوجي كمعلومات وتحليلات، لا بد من وقفة ولو سريعة عند جانب من الكتاب بالغ الأهمية يتعلق بوجود النساء في تلك الجزيرة حيث يفيدنا تشيخوف أن مئات منهن كن هناك للحاق بأزواجهن المحكومين، إضافة إلى عشرات من المحكومات رحن يمارسن الدعارة وحتى ضمن بيوت للدعارة كانت السلطات المحلية تراقبها عن كثب. وإلى هذا تحدث تشيخوف مطولاً في بعض فصول الكتاب عن سكان الجزيرة الأصليين من الذين بدا واضحاً اشمئزاز كثر من بينهم تجاه ذلك المصير الذي اختارته السلطات لجزيرتهم. كذلك توقف الكاتب ملياً عند أحوال المناخ والأحوال الاقتصادية والزراعة في تلك المنطقة القاسية من العالم، لافتاً إلى أن السلطات القيصرية حين اختارتها موقعاً لمستوطنة عقابية كانت تريد أن تجعلها تلك الجنة الإصلاحية الإنسانية التي ستسهم في تقويم اعوجاجات المجتمع، لكنها في النهاية لم تكن أكثر من جهنم غارقة في الصقيع القاتل طوال فصول العام.

المزيد من ثقافة