Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركي تشارلز راي يواجه العصر الاستهلاكي بصلابة

معرضاه الباريسيان الحاليان يتتبعان مختلف مراحل مسيرته الإبداعية في النحت

نظرة تشارلز راي الى الواقع المشوه (الخدمة الإعلامية)

على مدى سبعة عقود من ممارسة فن النحت والتأمل فيه كوسيط، سعى الأميركي تشارلز راي إلى تعديل وجهة الفن الحديث، ونجح في ذلك، باعتراف جميع النقاد. إنجاز لم يتطلب تحقيقه أكثر من نحو مئة منحوتة، إضافةً إلى وضعه نصب عينيه سؤالاً بسيطاً رافقه طوال مسيرته الإبداعية: ما هو النحت؟ وضمن هاجس الإجابة عليه، قدّم مقترحات متنوعة تفجّر أي معنى أحادي الدلالة لهذا النوع الفني، وأي تفسير محدد سلفاً له. مقترحات أثمرت أعمالاً نحتية باهرة تختلط داخلها المراجع التاريخية (اليونان، عصر النهضة الإيطالية) بمراجع من الحياة اليومية المعاصرة، وتبتكر الفضاء الذي تحتله سواء بقواعد تشييدها أو بطريقة حضورها وتحاورها داخله. وبدعوتها المتأمل فيها إلى الدوران حولها وتقاسم فضائها، تندرج هذه المنحوتات أيضاً ضمن زمنية مزدوجة: زمنية اختبارها، المتحوّل أبداً، وزمنية الأصداء التي تخلّفها، ولا حدود لها.

هذا ما يتجلى بقوة في المعرضين الباريسيين اللذين ينظمانهما حالياً لهذا الفنان "مركز بومبيدو" و"بورصة التجارة"، ويوفّران، للمرة الأولى في أوروبا، فرصة مشاهدة أكثر من ثلث منحوتاته. معرضان يقدّم كل منهما إضاءة فريدة على عمله، ويؤسسان، بتزامنهما وتجاورهما، للعبة أصداء تسمح بمحاصرة جميع جوانب عمله وقيمته.

 

من هذين المعرضين، يتبيّن أن راي اهتم في بداياته بالفن التجريدي وأنجز تجهيزات مينيمالية اقترح فيها حصيلة مثيرة لمختلف التطوّرات التي طرأت على فن النحت خلال القرن العشرين. تجهيزات تتألف من منحوتات صغيرة مستوحاة من أعمال فنانين مينيماليين معاصرين له، أبرزهم روبرت موريس. أنجز أيضاً أداءات عمد إلى تصويرها، مثل "قِطَع خشبية" (1973) التي علّق نفسه في واحد منها على جدار مستعيناً بلوح خشبي، وفي واحد آخر، على شجرة مستعيناً بأغصانها.

"علبة الحبر"

وفي الثمانينيات، أنجز منحوتات صلبة أحادية اللون، كـ "علبة الحبر" (1986) التي تتألف من مكعب أسوَد مملوء بحبر أسوَد، أو متعددة الألوان، كـ "بيبتو بيسمول في علبة رخامية" (1988) التي تتألف من مكعب رخامي أبيض مملوء بدواء سائل ووردي للتقيؤ، أو تجهيزات تبلبل النظر، مثل "خط الحبر" (1987) الذي يقع فيه بشكل مستمر حبر أسوَد من ثقب في السقف داخل ثقب مماثل في الأرض.

وفي التسعينيات، أدخل الشكل البشري على عمله عبر تصويره أو نحته جسده، كما في "بورتريه ذاتي" (1990) المصنوع من ألياف زجاجية، أو في "نعم" (1990) و"لا" (1991)، وهما بورتريهان فوتوغرافيان له، أو في منحوتته "آه، يا شارلي، يا شارلي، يا شارلي!" (1992) التي تتألف من ثمانية تماثيل تجسده بوضعيات حسّية مختلفة توحي مجتمعةً، بمشهد إروسي، أو في "قنينة مربكة" (1995) التي أسقط فيها صورة ذاتية مصغّرة داخل قنينة.

وسواء في هذه الأعمال أو في أعمال أخرى، يتجلى افتتان راي بصورة الموديل داخل الفن وباستخدامها المفرط داخل ثقافة البوب والمجتمع الاستهلاكي، كما يتجلى استلهامه تاريخ المنحوتة الكلاسيكية لإنجازها، كما في سلسلة الموديلات النسائية الكبيرة الأحجام "خريف 91" (1992)، أو في منحوتة "قصة عائلة" (1993) التي نشاهد فيها أربعة أفراد من عائلة واحدة، مصنوعين من ألياف زجاجية ملونة بقياسات بشرية.

وفي العقد الأول من قرننا، أصبح عمل راي أكثر راديكالية إثر تخفيفه تدريجياً من خصائصه السابقة ولجوئه فيه إلى اللون الأحادي والتلميع الشديد، واعتماده الفولاذ المقاوم للصدأ، الألياف الزجاجية أو الألومينيوم. عملٌ تمتزج داخله تفاصيل شديدة الدقة بمساحات مظللة وخام، ويتلاعب الفنان فيه بمقاييس شخصياته التي تبدو معلّقة بين حضور وغياب، ضمن تمثيل أكثر فأكثر تجريدي.

تشويه الواقع

ومن مجموع أعماله المعروضة حالياً، يتضح ميل راي إلى التلاعب بمفهوم السلم القياسي وبمفاعيل تشويه الواقع. وهذا ما يفسّر لماذا تُفسد الكائنات والأشياء اليومية في منحوتاته نقاط استدلالنا من خلال تناقضات غير محسوسة داخلها، كذلك التمثيل الذي يبدو شديد الواقعية عند الوهلة الأولى، قبل أن يتجلى طابعه الهيكلي الذي يلامس التجريد عن طريق تواري تفاصيل هذه الكائنات والأشياء وخصوصياتها. وهو ما يحثّنا على التأمل ملياً في منحوتاته، لأن "ألفتها الغريبة" والتباسها الذي يزعزع حقيقتها يبلبلاننا، كما لو أننا تحت تأثير هلوسة، يسقطاننا داخل واقع مصطنع أو شكل من أشكال الخرافة.

بالتالي، سواء اعتمد الحجر أو الفولاذ أو أي معدن آخر في عمله، يبتكر راي أشباحاً صلبة تسكننا وتتسلط علينا ما إن نراها. ولفترة طويلة، كان هذا البعد الطيفي ضمنياً في منحوتاته، قبل أن يصبح واضحاً ومحسوساً بفعل استثماره الحاذق لمفهومي الحضور والغياب. ومع أنه عمد أحياناً إلى تسمية شخصياته أو إلى إضفاء طابع موضوعي عليها بواسطة عناوين وصفية ترسّخها في حقبة أو ثقافة أو هوية محددة، لكن أكثر ما يصدمنا فيها هو جانبها الشامل واللازمني الذي يعزّزه تواري عيونها وملامحها المجرّدة، ويقرّبها من منحوتات العصور القديمة. جانب يعكس معرفة عميقة بتاريخ الفن من بداياته حتى اليوم، ولا يحول دون مقاربة الفنان موضوعات راهنة محددة في بعض منحوتاته، كتلك التي رصدها للحياة اليومية في أميركا وانتقد فيها تفاهة أوهشاشة الأقدار داخل مجتمعها، قيَمها الاجتماعية والأخلاقية، أساطيرها وأيقوناتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهة أخرى، ونظراً إلى دراسته بعمق عمل العملاق جياكوميتي وطريقة مثول أو تحرّك شخصياته النحيلة داخل فضائها، وضع راي باكراً مسألة الفضاء الذي يحيط بالمنحوتة في صلب بحثه، مقترحاً علينا من خلال ذلك اختباراً أكثر تعقيداً وغموضاً للواقع وعلاقتنا به. ولأنه أدرك باكراً أن فن النحت هو الوسيط الذي لا يؤسس فقط للعلاقة الأكثر امتيازاً مع الفضاء، بل يستكشف أيضاً، أفضل من أي وسيط فني آخر، ذلك التوتر الجسدي والنفسي داخله، ابتكر منحوتات قادرة على التأثير والتفاعل مع المتأمل فيها، بفعل مميزاتها، وأيضاً من خلال مدى الفضاء الفارغ الذي تتطلبه من حولها، وعبر ملامستها الأرض مباشرةً ومثولها من دون قاعدة.

هكذا، استطاع راي تقديم منحوتته وعملية تمفصلها داخل الفضاء، في فعلٍ واحد، ضمن توتر واحد وترابُط تمليه الضرورة. وسواء اعتمد لإنجازها الفولاذ المصقول، أو الألومينيوم، أو الإسمنت، أو الورق المقوى، تستدعي ممارسته طُرُقاً مختلفة تقع بين العمل الحِرَفي والتكنولوجيات الصناعية الأكثر تطوراً، كالمسح الفوتوغرافي الذي يمنحه نماذج ثلاثية الأبعاد، والصبّ بمادتي الجبس المقوى والألياف الزجاجية، أو الرقمنة التي تسبق عملية نحت كتلة معدنية بواسطة آلية صناعية بطيئة يتم التحكم بها بواسطة حاسوب؛ من دون أن ننسى عامل الزمن الذي يؤمن الفنان بتأثيره على المنحوتة وعمله عليها بقدر صاحبها.

وهذا ما يقودنا إلى ميزة عمل راي الأولى، أي تلك الآنيّة الناتجة ــ وهنا المفارقة ــ من جهد يمتد غالباً على مدى سنوات. فكل واحدة من منحوتاته تمثّل اللحظة الأخيرة من قصة طويلة بقدرما هي معقّدة، قصة تصوُّر هذه المنحوتة ذهنياً وانتاجها مادياً. وحول هذه النقطة، كتب الفنان في أحد نصوصه: "المنحوتة بحثٌ مكتوب بالأبعاد الأربعة لعالمنا، أبعاد الفضاء الثلاثة وبُعد الزمن".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة