Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العائدون من الغيبوبة... رحلة الغرابة والغموض

كثيرون أفاقوا بعد سنوات ليجدوا عالماً آخر تماماً وقصص عودتهم تظل سراً

كثيرون تركوا العالم ودخلوا في غيبوبة ليفيقوا بعد سنوات ويجدوا أنظمة سقطت وأزمنة ولت (غيتي)

الجميع يملك قدراً من المعرفة حول فكرة العودة أو الرجوع. فهذا يعود إلى بيته بعد انتهاء العمل، وهذه إلى الوطن بعد سفر، وهؤلاء يعودون بعد الحرب، وأولئك عقب فترة عقوبة في السجن. حتى عبارة "العائدين من" صارت مصطلحاً قائماً بذاته.

فلاسفة ومفكرون اجتهدوا في فكرة "العائدون إلى الله" بعد فترة شك أو إنكار. ساسة ومنظرون ابتكروا منظومة "العائدون من أفغانستان" أو باكستان، أو الشيشان أو "داعش" أو أي من أماكن الصراع المتلونة بألوان عقائدية.

تعجب واستفهام

أما "العائدون من الغيبوبة" فتظل علامة تعجب كبيرة واستفهام أكبر. كما أن هذه العودة تحديداً متنازع ومتنافس عليها بين تيارين: الأول طبي علمي بحثي بحت، والثاني روحاني نفسي ميتافيزيقي لا نهائي.

طبيعي أن تحوم الكلمات المشتقة من "غاب" حول مفاهيم الغياب والتغييب وكذلك الغيبوبة. المعاني والصور الذهنية لـ "غاب" تلقي بظلال ثقيلة على القلب، وتستدعي ذكريات حزينة في العقل. غيّب الموت فلاناً، وطال غياب المحبوب، وغابت شمس الحق. حتى حين "غاب القمر يا ابن عمي" في رواية الجميلة شادية، أدى ذلك إلى طلبها العودة إلى البيت لأن "النسمة آخر الليل تفوت وتجرحني".

الغيبوبة ليست جرحاً يصيب المريض فيتأوه. هي غياب ينقله إلى عالم آخر ما زال العلم لا يعرف كثيراً عنه. طبياً، الغيبوبة هي حالة من فقدان الوعي مدة طويلة. أسبابها كثيرة، ومنها إصابات الرأس والسكتة الدماغية وأورام الدماغ والتسمم الكحولي أو الناجم عن تناول عقاقير، كما قد تحدث الغيبوبة في حالات الإصابة بأمراض مزمنة مثل السكري أو حدوث عدوى.

حالة طبية طارئة

الطب يقول إنها "حالة طارئة"، وتستلزم اتخاذ إجراءات سريعة للحفاظ على الحياة ووظائف الدماغ. أحياناً يمكن معرفة أسبابها من خلال أشعات وفحوص طبية، ما قد يساعد في التدخل الطبي لمعالجتها، من ثم إفاقة المريض وعودته. لكن قد تستمر الغيبوبة أياماً وأسابيع وشهوراً، ومنها ما استمر سنوات.

وفي هذه الأحوال النادرة، حيث الغيبوبة الطويلة، يكون الشخص أكثر عرضة للدخول في "حالة إنباتية أو خضرية مستديمة" أو Persistent vegetative state، وهي اضطراب الوعي نتيجة حدوث تلف أو أضرار في خلايا المخ.

وبينما الشخص غارق في غيبوبته، لا يعتقد أنه يستجيب كما لا يمكن إيقاظه، ويكون نشاطه الدماغي ضئيلاً يكون على قيد الحياة، لكن لا يظهر أمارات بوجود الوعي. طبياً أيضاً، يكون الغارق في الغيبوبة مغلق العينين، ولا يظهر علامات استجابة لما حوله من أصوات أو وخز يسبب ألماً في الأحوال العادية. كما تقل جداً قدرته على السعال أو البلع. بعضهم يستمر في التنفس بطريقة طبيعية، والآخر يحتاج إلى تدخل أجهزة لمساعدته على التنفس.

27 عاماً في غيبوبة

السجلات الطبية حافلة بمرضى حول العالم دخلوا في غيبوبة أياماً، وأسابيع، وأشهراً، والبعض مكث سنوات قبل أن يفيق أو يموت. سيدة إماراتية مكثت في غيبوبة ناجمة عن حادث مروري لمدة 27 عاماً. لكنها عادت إلى الحياة على وقع مشادة بين ابنها الذي احتضنته بذراعيها وقت وقوع الحادث لتحميه، وكان عمره وقتها أربعة أعوام وبين طاقم العلاج في المستشفى.

كما عادت سيدة إيطالية من غيبوبة دامت 10 أعوام. وكانت السيدة وقتها حاملاً في الشهر السابع، وتعرضت لنوبة قلبية خضعت إثرها لعملية ولادة قيصرية طارئة انتهت بولادة ابنتها ودخولها في غيبوبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الشيوعية انتهت

كثيرون تركوا العالم ودخلوا في غيبوبة ليفيقوا بعد سنوات ليجدوا عالماً آخر تماماً. رجل بولندي استهل غيبوبته في عام 1988 وكان الحزب الشيوعي البولندي مهيمناً على البلاد، والناس التي تفصل بينها مسافات لا يتواصلون إلا بالهواتف الأرضية والبريد الورقي. أفاق بعد 10 سنوات ليجد أن الشيوعية ولت وأدبرت، وأن الجميع يمسك بشيء ما على أذنه ويتواصل مع الآخرين دون سلك هاتف أو ورق خطابات.

مواطن بريطاني دخل في غيبوبة أيضاً أوائل 2020 بعدما صدمته سيارة وأفاق بعد 10 أشهر، ليجد العالم في حالة إغلاق وعزل بسبب كورونا ومتحوراته. الغريب والمثير أنه أصيب في أثناء غيبوبته بالفيروس مرتين.

مشاهير أيضاً خاضوا تجربة الغيبوبة الغامضة، وعادوا عودة لم تطرأ على بال أو خاطر، وأبرزهم بطل سباقات السيارات الألماني الأسطوري مايكل شوماخر الحاصل على سبعة ألقاب في بطولة العالم للسيارات "فورمولا -1"، وهو ما أدى إلى إصابة دماغية قوية (على الرغم من ارتدائه خوذة)، فدخل في غيبوبة استمرت خمس سنوات. وبعد علاجات متقدمة بعضها وُصِف بـ"السري"، عاد شوماخر للحياة.

وضمن مشاهير الغيبوبة رئيس وزراء إسرائيل السابق، آرييل شارون، الذي أصيب بجلطة دماغية في يناير (كانون الثاني) عام 2006، ودخل في غيبوبة استمرت حتى عام 2014، لكنها انتهت بوفاته.

أسئلة بلا إجابات

 ويظل العائدون من الغيبوبة سبباً لسيل من الأسئلة أغلبها بلا إجابات حول ما الذي يحدث للشخص أثناء الغيبوبة، ودرجة وعيه بما يجري له وما يدور حوله. الطب يشير إلى أن بعض الأشخاص يفيقون تدريجاً ويعودون إلى الحياة، بينما لا يظهر الآخر أي تحسن.

حتى من يعودون يختلفون في ما بينهم في درجة العودة وحجم الضرر الذي يعودون به بعد الإفاقة. فقد يكونون مضطربين ومشوشين للغاية في البداية، ثم تسهم العلاجات الطبيعية والنفسية في التحسن بحسب درجة الاستجابة. البعض قد يخرج بإعاقات جسدية أو عقلية أو كليهما. والبعض قد يتعافون تماماً وكأن غيبوبة لم تكن.

هذه الاختلافات تحددها درجة الإصابة الدماغية وسببها ومدتها ومدة الغيبوبة. وعلى الرغم من ذلك، تظل الغيبوبة والعودة منها سراً كبيراً، ومسألة يصعب أو بالأدق يستحيل التنبؤ بتطوراتها.

تجارب غير متطابقة

الأطباء الذين ينقلون ما يسمعونه من مرضاهم الذين دخلوا في غيبوبة، ثم خرجوا منها يجمعون على أن البعض لا يتذكر شيئاً، لكن الآخر يتحدث عن أنفاق مظلمة يجدون أنفسهم فيها في نهايتها ضوء ساطع، وربما مقابلات مع أشخاص وأقارب رحلوا، وخبرات تدور حول فكرة واحدة، ألا وهي الخروج من قيد الجسد والتجول الحر.

بين العائدين من مروا بتجارب عودة غريبة. سيدة مدخنة بشراهة دخلت في غيبوبة لمدة أربعة أسابيع، وحين عادت كانت على يقين أنها لم تدخن سيجارة واحدة طيلة حياتها، ولم تعد إلى سجائرها مجدداً.

 

 

مسن أميركي دخل في غيبوبة ليفيق منها وقد نسى الإنجليزية، ولم يتحدث سوى لغة التشوكتاو التي تتحدث بها قبيلة من السكان الأصليين لأميركا الشمالية، التي تعلمها وهو طفل لكن نسيها نتيجة لعدم الممارسة سنوات طويلة. سيدة عادت بعد الغيبوبة ليكتشفوا أن ذاكرتها أصبحت خليطاً من ذكرياتها الشخصية، وما سمعته يدور حولها من أحاديث أقاربها والطواقم الطبية أثناء إقامتها في المستشفى.

سمة عامة بين العائدين الذين تذكروا إلى حد ما مجريات الغيبوبة تحدثوا عن حلم طويل ونوم عميق وقدرة على سماع ما يدور حولهم مع عدم قدرة على الاستيقاظ. البعض يتذكر لقاءات وأحاديث مع أقارب رحلوا. وهناك من أمضى وقت الغيبوبة، أياماً أو أسابيع أو أشهراً أو سنوات، في الاستمتاع وتأمل أماكن جميلة أو موسيقى هادئة.

الأميركية كلير واينلاند جرى إدخالها في غيبوبة مقصودة بعد خضوعها لجراحة أدت إلى إصابتها بعدوى دم خطيرة. أفاقت واينلاند وعادت إلى الحياة لتحكي عن الوقت "الجميل" الذي أمضته وهي في ألاسكا تتأمل المشاهد والأماكن رائعة الجمال حولها، حيث غابات وكهوف وحيوانات برية بينما الجو قارس البرودة، لكن لسبب ما لم تكن متضررة.

وتكتشف "واينلاند"، "أن سبب البرودة هو أن الطاقم الطبي المعالج لها كان يحيط جسدها بأكياس ثلج". تقول "إنها طيلة الأسبوعين كانت تسمع كل ما يدور حولها، لكن الأصوات كانت تصلها وكأنها قادمة من مكان بعيد جداً على الرغم من وضوحها".

إبداع وخيال

وضوح ما يجري أثناء الغيبوبة والتحقق منه سيظل مجالاً ثرياً لكتاب الدراما وهواة الخيال العلمي والمتعمقين في الروح وأحوالها، وكذلك للباحثين في مجال الطب للبحث والإبداع وكذلك إطلاق العنان للخيال. اختصاصي المخ والأعصاب الأميركي، مايكل دوجورجيا، قال في حوار مع شبكة "إيه بي سي" الأميركية "إن الاستماع لقصص العائدين من الغيبوبة أمر بالغ الأهمية، وقد يلقي مزيداً من الضوء كذلك على ما يشعر به الأشخاص الذين يخضعون لمخدر قوي".

وأضاف "أن بين المرضى العائدين من الغيبوبة من يتعرضون لـ(اضطراب الكرب التالي للرضح) أو (اضطراب ما بعد الصدمة) أو غيرها من الاضطرابات التي قد تنجم عن بقاء المريض في حالة شبيهة بالحل المستمر لفترة طويلة". لكنه يؤكد "أن الغيبوبة التي يدخل فيها المريض بتخطيط طبي تختلف عن تلك التي يدخل فيها المريض نتيجة إصابة في المخ".

ويشير إلى أن "المخ أثناء الحلم لا يتبع معايير التزامن والمنطق. لذلك حين يستيقظ الشخص من الحلم، تكون ذاكرة الحلم موجودة بشكل ما لكن تغلب عليها الضبابية. وهذا يشبه الخضوع لتخدير عميق أو بعض أنواع الغيبوبة إلى حد كبير".

روحانيات مختلفة

من وجهة نظر روحانية، فإن قصص العائدين الذين أصبحوا على قدر غير مسبوق من الصفاء والنقاء والروحانية بعد العودة كثيرة. كذلك تجارب العائدين الذين يتحدثون عن تعديل جذري في رؤاهم للحياة وعلاقاتهم بالآخرين وأولوياتهم أيضاً كثيرة.

لكن تجربة الغيبوبة، شأنها شأن عديد من التجارب الحياتية أو بالأحرى المماتية الأخرى، وثيقة الصلة بالثقافة. وما يتم تداوله وتناوله في ثقافات الغرب يختلف عن ثقافات الشرق. والأكثر دراسة وخضوعاً للبحث والسرد هي تجارب الغيبوبة في الغرب.

وبحسب مقال منشور في مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية في أبريل (نيسان) 2015، تحت عنوان "عِلم تجارب قريبة من الموت" للكاتب غيديون ليخفيلد، "فإن عديداً من القصص التي حكاها العائدون تتحدث عن إحساس الطفو والقدرة على رؤية المشهد المحيط بالجسد غير الواعي وقضاء وقت جميل في عالم أجمل، وربما لقاء كائنات روحانية يسميها البعض ملائكة، وحضور محبب يسميه البعض الله".

 

 

كما يتحدثون عن لقاء أقارب وأصدقاء رحلوا قبل سنوات طويلة، والقدرة على تذكر لقطات من حياة المريض. كما يحكون عن شعور غريب كامن يربطهم بكل ما حولهم من مخلوقات وكائنات وشعور جارف بحب سام منزه عن الأغراض. كما يتفق كثيرون على أن لحظة "استدعائهم"، أي عودتهم من الغيبوبة، تكون أشبه بتصرف يفعله المرء على مضض، حيث لا يريد ترك هذا العالم الجميل والعودة إلى الجسد. كما ينفي كثيرون من العائدين أن يكون ما مروا به حلماً أو هلوسة، بل "أكثر واقعية من الحياة المعاشة".

ويشير العائدون إلى "أن حياتهم تتغير كثيراً بعد العودة. فبعيداً من المشكلات المتعلقة بالتأهيل الجسدي حال حدوث أضرار نتيجة الغيبوبة، فإن مشكلات من نوع آخر تنشأ، حيث تأقلمهم مع الأشخاص والتفاصيل التي اعتادوها قبل الغيبوبة يكون بالغ الصعوبة بعدها. تغيرات جذرية عدة تحدث، ومنهم من يقرر تغيير المهنة تماماً، كما تكثر حالات الانفصال عن شريك الحياة".

عربياً، تتوقف سرديات العائدين من الغيبوبة عند حدود أخرى. الاهتمام بما يجري للشخص أثناء الغيبوبة والبحث عن تفاصيل ما جرى وما رأى وما شعر به تظل في الأغلب طي السرية والكتمان، وإن لم تفعل، فحدودها أقرب الأقربين.

والجانب الأكبر مما يكتب عن تجارب العائدين من الغيبوبة تكون منقولة عن مصادر غربية. لكن هناك اهتماماً كبيراً من قبل أهالي مرضى الغيبوبة لسؤال رجال الدين حول الموقف الديني لذويهم في الغيبوبة. ووصل الأمر بالبعض إلى السؤال عن رأي الدين في من دخل في غيبوبة منعته من صيام رمضان وأداء الصلاة، أو من توفي عقب غيبوبة، ولم يتمكن أهله من تلقينه الشهادة، وغيرها من الأسئلة.

الدراما تحب الغيبوبة

أعمال سينمائية وتلفزيونية غربية عدة تعرضت لمريض الغيبوبة أو ما يطلق عليه "أن دي إي" أو  Near death experience. تجربة الدنو من الموت. الفكرة نفسها كانت وستظل تحظى بجاذبية كبرى نظراً، لأنها كانت وستظل غامضة حتى إشعار علمي آخر.

الطريف أن مجموعة من الباحثين أجرت دراسة عنوانها "علم الأوبئة وتشخيص الغيبوبة في الدراما التلفزيونية الأميركية النهارية" وتم نشرها في "الدورية البريطانية الطبية" (2005). ووجدت الدراسة "أن الغالبية العظمى من مرضى الغيبوبة في المسلسلات يخرجون منها بسلام ويعودون إلى سابق حياتهم، وكأن شيئاً لم يكن، وذلك دون فترات تأهيل أو أضرار جسدية أو عقلية".

ونبهت الدراسة إلى "أنه على الرغم من كون هذه الأعمال خيالية، فإنها قد تؤدي إلى تصوير الغيبوبة بشكل يختلف تماماً عما يحدث على أرض الواقع، وما قد ينتج عن ذلك من آمال كاذبة لمن يصابون بها.. الغيبوبة وما يدور فيها تظل أسراراً مثيرة يقف العلم أمامها عاجزاً، على الرغم من الحكايات والدراما.  

المزيد من تحقيقات ومطولات