في الوقت الذي تحول فيه عالم الـ"ميتافيرس" الافتراضي إلى ساحة مبارزة بين عمالقة التكنولوجيا في العالم، اشتعل السباق بين شركتي "ميتا" و"مايكروسوفت" في هذا المجال، فيما بقيت شركة "أبل" الاستثناء التي تبتعد بنفسها عن هذا التنافس، بحسب ما يراه محللون تقنيون.
ويبدو أن "أبل"، وهي أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية، لا تؤمن بـ"الميتافيرس"، المصطلح الواسع الذي يشير عموماً إلى بيئات العالم الافتراضي المشتركة التي يمكن للناس الوصول إليها عبر الإنترنت، كما يروج لها مارك زوكربيرغ مؤسس "فيسبوك".
ومع ذلك، لم تسم عرابة "آيفون" العالم الافتراضي الجديد بـ"الميتافيرس"، كما صرح تيم كوك في سبتمبر (أيلول) الماضي، "سنطلق عليها الواقع المعزز فقط".
ولطالما أثار "الميتافيرس" الجدل، حيث يرى المؤيدون أن الناس سيعملون ويلعبون ويتعلمون ويتسوقون افتراضياً، فيما يرى المعارضون أنه لا يزال مفهوماً غير واضح المعالم في الوقت الراهن.
ويُشير مصطلح "الميتافيرس" إلى البرامج والأجهزة التي تسمح للمستخدمين باللعب أو العمل في مساحات افتراضية ثلاثية الأبعاد، أو دمج المعلومات عبر الإنترنت مع العالم الحقيقي في الوقت الفعلي. وحالياً، يمكن الوصول إلى التقنية الجديدة من خلال هاتف ذكي، ولكن في النهاية، سيتم اعتماده من خلال السماعات المتطورة للواقع الافتراضي والمعزز.
وينفق قادة التكنولوجيا مثل "مايكروسوفت" و"ميتا" و"غوغل" المليارات في بناء أجهزة وبرامج الواقع الافتراضي المعزز الذي يمكن أن يصبح اللبنات الأساسية لهذا لعالم الرقمي الناشئ.
ومن المتوقع أن تصل سوق "الميتافيرس" إلى 783.3 مليار دولار في عام 2024 مقابل 478.7 مليار دولار في عام 2020 وهو ما يمثل معدل نمو سنوي مركب يبلغ 13.1 في المئة بحسب بيانات لوكالة "بلومبيرغ".
فيما يُقدر محللو بنك الاستثمار الأميركي "غولدمان ساكس" أن يتم استثمار نحو 1.35 تريليون دولار في تطوير هذه التقنيات خلال السنوات المقبلة.
رهان متزايد
في البداية راهن مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ على "الميتافيرس" في إعادة تسمية شركة الشبكات الاجتماعية بـ"ميتا" تعبيراً عن الأهمية التي توليها لهذه التقنية الجديدة التي تعد قمة التكنولوجيا، وحوّل عشرة مليارات دولار من مخصصات "فيسبوك ريالتي لابز"، لصالح التقنية الجديدة، وفي سبيل دعم توجهها، استحوذت "فيسبوك" على "أوكولوس في آر" المتخصصة في إنتاج نظارات الواقع الافتراضي، كما سبق أن أعلنت عن "هورايزون في آر يونيفرس"، كمنصة للألعاب الافتراضية بواسطة الواقع المعزز.
كذلك تعمل "مايكروسوفت" على بناء منصة باسم "ميش فور تيمز"، لربط العديد من البيئات الافتراضية، انطلاقاً من تطبيق "تيمز"، لتمكين الأشخاص في أماكن حقيقية من الانضمام إلى بيئات افتراضية تستخدم "الهيلوغرام" (تقنية التصوير المجسم)، للمشاركة في الاجتماعات الافتراضية، وإرسال الدردشات، والعمل وتبادل الملفات وغيرها الكثير، واستشهدت الشركة بما يسمى بــ"الميتافيرس" كسبب لشرائها شركة "أكتيفيجن بليزارد" المطورة للألعاب الإلكترونية مقابل 68.7 مليار دولار.
إلا أن تصور "الميتافيرس" يختلف بين الشركتين العملاقتين، فمفهومه بالنسبة إلى "فيسبوك" هو حصول التفاعلات في مساحة واحدة، أما "مايكروسوفت" فتطرح مفهوماً أكثر تعدداً.
منافسة "غوغل"
من جانبها تعتبر "غوغل" منافساً لا يستهان به في سباق "الميتافيرس"، إذ استحوذت في 2020 على شركة "نورث" المتخصصة بتطوير نظارات خفيفة الوزن للواقع المعزز، كما يتمتع عملاق محركات البحث بتجربة سابقة تمثلت بنظارات "غوغل غلاس" التي كشف عنها في عام 2013.
وتغري التقنية الحديثة شركة "سناب" أيضاً، التي أطلقت عبر تطبيقها "سناب شات" عدسة مرشح جديدة تعمل بتقنية الواقع المعزز، لجعل صورة المستخدم تبدو كما ستظهر شخصية المستخدم في عالم "الميتافيرس".
وأوضح أستاذ التسويق الرقمي في جامعة "وست اسكوتلند" ثيو تزانيديس، "أن كل شركة تنطلق في تعريفها للميتافيرس حسبما هو في الواقع حالياً. ولم تكشف كل الشركات العملاقة الأخرى في (سيليكون فالي) بعد عن استراتيجياتها فيما يتعلق بالميتافيرس، إذ بقيت (أبل) و(أمازون) بعيدة من الموضوع، أقله علناً".
خطط "أبل"
وكشفت "أبل"، الشهر الماضي ملامح خططها الخاصة بعالم الميتافيرس، إذ أعلن رئيسها التنفيذي تيم كوك عن التوسع في تطبيقات الشركة للواقع المعزز.
وقال كوك، "السحر يكمن في التداخل. نستثمر في أشياء ليست موجودة في السوق خلال هذه المرحلة"، نرى الكثير من الإمكانات في هذا المجال ونستثمر وفقاً لذلك"، وذلك في معرض رده على سؤال عن خطط "أبل" فيما يتعلق بـ"الميتافيرس"، مضيفاً أن "جهود البحث والتطوير التي تبذلها الشركة تركز على تداخل الأجهزة والبرمجيات والخدمات".
وثمة تساؤلات في وول ستريت عن المدة التي ستستغرقها "أبل" لتقديم منتجها الكبير التالي، مثل سماعة الواقع المعزز من أجل خوض غمار عالم "الميتافيرس"، وجاء رد كوك قائلاً، "نرى الكثير من الإمكانات في هذا المجال ونستثمر وفقاً لذلك".
ومن شأن التوسع في مجال الواقع المعزز أن يفتح الباب أمام زيادة الاشتراكات، ويمكن أن تصبح العروض الحالية لتدريبات اللياقة البدنية والمحتوى المصور أكثر جاذبية من خلال تجارب الواقع المعزز.
وتملك أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية 14 ألف تطبيق للواقع المعزز في متجر التطبيقات الخاص بها، واقترح كوك "أن هذا الرقم سيرتفع مع مزيد من الاستثمارات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعد قطاع الخدمات والتطبيقات وهو ثاني أكبر قطاع في "أبل" حالياً بعد "آيفون". وتجاوزت قيمة "أبل" السوقية ثلاثة تريليونات دولار في مطلع العام الحالي.
ولا تزال وحدات البناء التقني في "أبل" تعمل على منتج جديد تماماً، وقد يتم إطلاق سماعة رأس متطورة من صنع الشركة، تمزج بين الواقع الافتراضي ونظيره المعزز هذا العام.
وعلى عكس "ميتا"، لا تُفصح "أبل" عن منتجات الأجهزة الجديدة حتى تصبح جاهزة تماماً للكشف عنها. وينتظر أن تحدث سماعة الرأس الخاصة بها عند طرحها هزة قوية في السوق، وتخلق نهجاً جديداً للمنافسة، كما فعلت، ولا تزال، هواتف "آيفون"، وساعات "أبل" الذكية.
حُمى "الميتافيرس"
يقول مارك غورمان، من وكالة "بلومبيرغ"، في رسالته الإخبارية "باور أون"، "تبقى أبل الاستثناء التي تبتعد بنفسها عن حُمى الميتافيرس، إذ يبدو أنها لا تؤمن بالميتافيرس كما يروج لها زوكربيرغ".
وأضاف غورمان، وهو أيضاً مراقب بارز لشركة "أبل"، أن "الميتافيرس سيكون محظوراً على كل منتجات عملاق التكنولوجيا الأميركية للواقع البديل". وتابع، "لقد قيل لي بشكل مباشر إن فكرة عالم افتراضي تماماً مثل الميتافيرس الذي تروج له شركة ميتا هو أمر محظور على شركة أبل".
وأشار الصحافي في وكالة "بلومبيرغ" المتخصص في الشؤون التقنية، إلى أن "أبل تعتقد أن الزوار الجدد للفضاء الافتراضي سيكونون أكثر اهتماماً بـاندفاعات من النشاط بدلاً من التجربة الغامرة التي يدفعها زوكربيرغ وشركته".
التجارب القصيرة
من جهته قال المؤسس المشارك لشركة لوب فانتير، المتخصصة في تحليل المخاطر المالية، جين مونستر، في تقرير له نشرته منصة "تيك نيوز وورلد" إن "أبل تتمتع بذكاء في التركيز على التجارب القصيرة التي تكون أكثر سهولة في الاستخدام. وبمرور الوقت، من المحتمل أن يكون لدى أبل نظارات يتم ارتداؤها طوال اليوم".
وأضاف مونستر أن "تجنب (الميتافيرس) سيضر بآفاق أجهزة أبل"، موضحاً أن "الخطوط الفاصلة بين العالم الحقيقي والافتراضي ستكون غير واضحة وستكون الميتافيرس مركزية لتلك العوالم الافتراضية". "إذا أرادت أبل بناء شركة ضخمة للأجهزة القابلة للارتداء، فيجب أن يكون لديها أجهزة تعمل مع الميتافيرس".
أسباب إضافية
يقول المحلل الرئيس في شركة "ريتاكل ريسيرتش" الاستشارية لتكنولوجيا المعلومات في نيويورك روس روبين لمنصة "تيك نيوز وورلد"، "مع الزمن ستصبح هذه النظارات أخف وزناً، وأكثر رشاقة، ولكن لا أحد يتوقع أن نرتديها طوال اليوم كي نبقى على اتصال بالميتافيرس"، مشيراً إلى بعض الأسباب الإضافية التي قد تجعل شركة "أبل" تتجنب "الميتافيرس" في هذا الوقت.
وأضاف، "قد لا يرون نموذجاً واضحاً للإيرادات فيه حتى الآن. إنهم يميلون إلى التركيز على الفرص التجارية الواسعة، على الرغم من الإشاعات بأن سماعة الرأس الأولى الخاصة بهم هي أكثر من أداة تطوير احترافية من الناحية التقنية والثمن المرتفع أيضاً". وأشار أيضاً إلى "أن الاستراتيجية التي استخدمتها شركة أبل في الماضي تتمثل في التراجع والمراقبة لمعرفة كيفية تطور السوق".
وأوضح، "بعد ذلك، عندما يتلاشى الضجيج يقفزون ويدخلون في المعمعة ليفوزوا بنصيب وافر من الكعكة". وأضاف، "إذا أصبحت الميتافيرس وريثة للويب، فأنا متأكد من أن أبل تريد طريقة لجعل مستخدميها يشاركون في ذلك، ولكن هذا بعيد المنال".
ويمكن أن يلعب احتضان "أبل" الواقع المعزز بديلاً عن الواقع الافتراضي دوراً في نبذها "الميتافيرس" التي ينادي بها زوكربيرغ والتي تركز على الواقع الافتراضي وتستند إلى بيئة ثلاثية الأبعاد ومغلقة، وهي تحتاج إلى نظارات ثلاثية الأبعاد للانغماس فيها، ولا يمكن تحقيق هذا الانغماس من دون هذه النظارات.
عالم بديل
وفي هذا السياق قال كيفين كريويل، وهو محلل رئيس في شركة "تيرياس" للأبحاث التقنية المتقدمة "أعتقد أن أبل لا تريد إنشاء عالم بديل. إنها تريد تعزيز العالم الحقيقي، وهذا سبب تفضيل الشركة دائماً للواقع المعزز على الواقع الافتراضي".
وأضاف كريويل، "هذا يبدو واضحاً تماماً من الأدوات التي تصنعها أبل، ومن الواضح أنها تستهدف بشكل كبير الواقع المعزز وليس الافتراضي".
كيف انتقلنا من الويب إلى "الميتافيرس"؟
"الميتافيرس" مفهوم طوره نيل ستيفنسون في رواية الخيال العلمي "الساموراي الافتراضي" عام 1992، وهو عبارة عن فضاء إلكتروني موازٍ للواقع المادي، يستطيع المستخدمون التلاقي فيه بهدف التفاعل أو المناقشة أو حتى الترفيه، ويتخذون لذلك شكل صور رمزية تمثلهم، أو ما يعرف بالـ"أفاتار". وكما هو متوقع، يتم التحكم في "الساموراي الافتراضي" من قبل أباطرة وسائل الإعلام وتجار العقارات الافتراضية، ويعزز عدم المساواة الاجتماعية، ويصبح حاملاً لفيروس قديم ويغوي بعض المستخدمين برفض الواقع "العادي" تماماً.
وقد ألهمت فكرة اجتماع الأشخاص المنفصلين جغرافياً في فضاء افتراضي جيلاً من المهووسين، تم استكشاف الفكرة نفسها بعد 20 عاماً في الرواية ولاحقاً في الفيلم الأميركي "ريدي بلاير وان" (جاهز أيها اللاعب الأول) للمخرج ستيفن سبيلبرغ وهو فيلم خيال علمي يجمع بين عالمي الواقع والحقيقة الافتراضية ومن تأليف إرنست كلاين، اقتباساً عن روايته التي تحمل الاسم نفسه، وتدور الأحداث في المستقبل في عام 2045.
في كلتا القصتين يستخدم الناس العالم الرقمي كمهرب من عالم بائس. هذه ليست صراحة سمة من سمات الرؤية المفصلة من قبل "ميتا" وآخرين ولكن يصعب التخلص منها، مع وجود جائحة وكارثة مناخية، قد يكون الكثير من الناس على استعداد لتغيير الواقع.