Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نحو 100 لوحة من رسم مارك شاغال لترجمة فرنسية لـ "الأرواح الميتة"

عن تلك النزعة الروسية التي انتقلت من الكلمات إلى الخطوط والأسود الملون

اقترح شاغال على الناشر فولار أن يشتغلا على طبعة مصورة من رواية "الأرواح الميتة" لغوغول (غيتي)

حدث ذلك في باريس عام 1923، وكان الرسام الروسي مارك شاغال قد عاد إلى باريس لتوه راجعاً من بلده الأصلي روسيا، حيث خاض تجربة سياسية أوصلته ليصبح ولو لفترة يسيرة من الزمن مشاركاً صديقه السياسي البولشفي لونا تشارسكي في رسم السياسات الثقافية للحكم الثوري الذي نشأ عن انتصار ثورة لينين ورفاقه (1917).

غير أن شاغال لم يتمكن من الصمود طويلاً في وجه جمودية الممارسات الثقافية للمسؤولين السوفيات في المجال الثقافي، فعاد إلى باريس التي كان قد عاش فيها سنوات منفى قبل ذلك، وفي باريس استقبل بترحاب وكان من بين المرحبين به الناشر وجامع اللوحات أمبرواز فولار الذي سرعان ما عرض عليه أن يحقق رسوماً روسية لطبعة يزمع إصدارها من قصة روسية الروح عنوانها "جنرال دوراكين"، من تراث الكاتبة الفرنسية من أصل روسي هي الأخرى، الكونتيس دي سيغور.

يومها على الرغم من "روسية النص" كما على الرغم من أن كلمة دوراكين تعني بالروسية "المجنون"، ما كان من شأن المشروع أن يلائم فن شاغال، فاقترح على الناشر أن يشتغلا على طبعة مصورة من رواية "الأرواح الميتة" لغوغول، فوافق فولار من فوره على الرغم من أنه لم يكن قرأ الرواية، وهكذا ولد ذلك الكتاب المصور الذي أثار إعجاباً واسعاً ولا يزال يعتبر إلى اليوم من روائع الكتب التي جمعت بين كاتب وفنان لكل منهما رؤيته ومزاجه ونظرته إلى الفن وإلى مجتمع أنتجهما معاً.

أفكار الأرستقراطي الشيطان

كانت النتيجة الفنية بالتحديد 96 لوحة تعتبر من أقوى ما أنتج شاغال في هذا المجال، وهو الذي من خصائص أسلوبه في هذا الكتاب استخدامه اللون الأسود وبعض الألوان المنوعة الموحدة لتصوير ما بات ينظر إليه منذ ذلك الحين كـ "نص" مرسوم يتكامل مع نص الرواية في الوقت الذي يعبر عن روح شخصياتها، لا سيما عن شخصيتها الرئيسة تشيتشيخوف، الذي تمكن شاغال من أن يتسلل إلى عمق ما هو شيطاني في ملامحه ونظراته، وهو الذي يتبين لنا عند إمعاننا في قراءة الرواية أنه تجسيد حي للشيطان نفسه، فهو في الأصل وكما رسمه غوغول بلغته الرائعة، ارستقراطي يقرر ذات يوم أنه قد يجدر به بدلاً من أن يضيع وقته في اللهو، أن يتحول إلى مالك أراض. ومن أجل الوصول إلى هذا يتخلى عن وظيفته المتواضعة في مصلحة الجمارك ليطوف الأرياف والقرى والمدن الصغيرة ليشتري جثث الأرقاء الميتين من أصحابها. لماذا؟ لأنه يريد أن يستفيد من إجراء رسمي يتيح له أن يقترض من المصارف أموالاً تساوي ما عنده من أرقاء، لذلك فإن ما يشتريه هم الأرقاء الذين ماتوا ودفنهم أسيادهم، من دون أن يسجلوا في الإحصاءات الرسمية، وبالنسبة إلى الدولة فهؤلاء الأرقاء لا يزالون أحياء، لذا ليس عليه إلا أن يراكم جثثهم ويقدم البيانات إلى الدولة فيحصل على الأموال التي يريدها، وللتمكن من هذا يجول صاحبنا في الدساكر والأرياف، وما نقرأه في الرواية إنما هو حكاية تلك الجولات لا أكثر.

غير أن قلم غوغول لا يتوقف عند طبيعة "المغامرة" التي يعيشها تشيتشيخوف، بل إنه يتجاوز ذلك ليقدم من خلال حياة هذا الرجل وتصرفاته وصفقاته واتصالاته، صورة بانورامية هائلة ومرة وثاقبة لمجتمع كان يعيش في تلك اللحظات مرحلة تحولاته الاجتماعية والأخلاقية الكبرى، فإذا أضفنا إلى هذا أن ملاك الأراضي الذين كان تشيتشيخوف يلتقيهم ليشتري ما لديهم من جثث، يعانون في تلك الفترة بالذات انتشار الأوبئة والمجاعة التي قضت على أملاكهم ودمرت أوضاعهم الاقتصادية، يطالعنا كم أن هذا الدمار انعكس على أخلاق المجتمع.

الشر من طبيعة البشر

من هنا لا يعود وجود "الشيطان"/ تشيتشيخوف سبباً في تحريك الأطماع، بل يصبح هذا الوجود مجرد الكاشف الذي ينم عما يعتمل في أعماق طبقة بأسرها خلال مرحلة هبوطها إلى القعر، وبالتالي فإن جولات تشيتشيخوف ولقاءاته تتيح لغوغول أن يتوقف مطولاً عند كثير من النماذج الاجتماعية التي ما إن تقترب الصورة منها حتى تنكشف ضارية جشعة متكالبة.

عبر ذلك كله من المؤكد أن غاية غوغول في هذا العمل لم تكن أبداً، كما قد يخيل إلى البعض عند القراءة السطحية لـ "الأرواح الميتة"، التنديد بنظام الرق.

كانت غايته تتجاوز ذلك كثيراً، لأن الرواية إنما هي "رواية البشرية بأسرها"، فبالنسبة إلى غوغول لا يقوم الأمر على أن الإنسان خير بطبعه يفسده المجتمع، بل على العكس الإنسان في جوهره شرير، يضبطه المجتمع، وهكذا ما إن يفلت من عقاله والضوابط حتى يكشف ما عنده وما عنده، كما تقول لنا الرواية، يقدم صورة متشائمة للبشرية ومصيرها، على الرغم من أن تلك لم تكن نظرة يشاركه فيها ذلك الرسام الروحي الذي كانه شاغال في ذلك الحين، فإن ما  طلع من بين يديه كان يعبر إن لم يكن تماماً عن أحداث الرواية، فإنه في نهاية الأمر استخدم تلك الأحداث ليقدم بدوره صورة عن روحية ذلك المجتمع، وبالتحديد ما هو دائم على الرغم من التغيرات السياسية الهائلة التي كانت عصفت بمجتمع تبدل هو وناسه تبدلاً فظيعاً بين زمن أحداث الرواية والزمن الذي رسم فيه "مشاهدها".

الثوابت التي لا تتغير

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان زمناً يدنو من قرن كما نعرف، فغوغول كتب روايته ونشرها حوالى العام 1842 فيما حقق شاغال رسومه لها بدءاً من العام 1923، ومع ذلك سيقول كثر إن شاغال ابن الروح الروسية العميقة على الرغم من خوضه السياسة وعيشه سنوات في أوروبا، بل حتى عودته إلى روسيا بعد نجاح ثورة 1917 ودنوه من الشيوعية بل مشاركته في رسم السياسات الثقافية للحكم الثوري، بشكل راح يقل حماسة شهراً بعد شهر حتى انتهى به الأمر إلى سلوك درب المنفى، فيما بقيت روحه الفنية عالقة بين قريته في الريف الروسي وموسكو وسانت بطرسبرغ.

شاغال هذا عبر في تلك الرسوم عن الروح الروسية بأكثر مما فعل العدد الأكبر من مجايليه من فنانين روس حملوا معهم عقليتهم المحلية إلى الغرب الذي هربوا إليه لكنهم راحوا يفقدونها بالتدريج، ونعرف على أي حال أن شاغال بقي روسياً وريفياً ويهودياً، ولكن ليس أبداً بالمعنى السياسي أو الأيديولوجي للكلمة.

روسي حتى الجنون

أما بالنسبة إلى المؤلف غوغول، فإنه حين كتب الجزء الأول من "الأرواح الميتة" ونشره كان في الـ 33 من عمره، وهو لم يعش على أي حال سوى 43 سنة، غير أن تلك السنوات القليلة كانت كافية لكي يقدم عملاً أدبياً استثنائياً وضعه خلال حياته ثم خصوصاً بعد رحيله في الصف الأول من بين كبار المبدعين الروس في مجال الأدب النثري، حتى وإن كان هو قد فضل أن يعرف "الأرواح الميتة" بأنها "قصيدة"، وغوغول الذي ولد العام 1809 تحت اسم نيقولاي فاسيلفتش غوغول ابن لعائلة من ملاك الأراضي في أوكرانيا، اتجه إلى الأدب والفن باكراً، لكنه بعد أن خاض تجربة مسرحية بائسة وهو خارج لتوه من سن المراهقة التحق بوظيفة حكومية ثم مارس التدريس. وفي العام 1831 نشر عمله المهم الأول "سهرة في مزرعة قرب ديكانكا" فلفت إليه الأنظار، وشجعه ذلك على كتابة رواية "تاراس بولبا" في العام 1834، التي حققت نجاحاً فاق كل تصوراته، لكن صدور الرواية أدى إلى طرده من التدريس الجامعي، فتنفس الصعداء وقرر أن يكرس وقته كله للكتابة، خصوصاً أنه كان بدأ يرى أن في إمكانه عبر كتابته أنه يقارع الشر والفساد لدى الفرد وفي المجتمع، وهكذا راح ينشر قصصاً أبطالها أشخاص تافهون لا معنى لهم، ومن أبرز تلك القصص "المعطف" و"الأنف" و"الصورة"، وخصوصاً "يوميات مجنون"، ثم وصل في "المفتش العام" (1836) إلى شجب الأساليب الإدارية والسخرية منها، وبعد ذلك كانت روايته الكبرى "الأرواح الميتة" التي كرس لها 15 عاماً من حياته، وبدأ يصيغها بعد رحلة قام بها إلى إيطاليا. ولاحقاً بعد نشر جزءي الرواية، حج غوغول إلى القدس وعاد وقد تملكته هواجس صوفية راح يمارسها فأخلت بتوازنه العقلي ودمرت صحته الجسدية، فمات شاباً وحيداً منعزلاً غير قادر على الكتابة أكثر، ولا حتى على أن يحلم بغد للإنسانية.

المزيد من ثقافة