Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الديك الذهب" الأوبرا الأخيرة لصاحب "شهرزاد" التي أغرم بها الجمهور الروسي

رمسكي - كورساكوف يسخر من القيصر بعدما نشط نهضة مدهشة للموسيقى الوطنية

مشهد من الأوبرا (غيتي)

هو أمر لا بد من العودة إليه والتذكير به في كل مرة يجري الحديث فيها عن الموسيقى الروسية وعلاقتها، من ناحية بالموسيقى الشعبية في روسيا نهايات القرن التاسع عشر، ومن ناحية ثانية بالموسيقى المسماة استشراقية. وما نعنيه بـ"العودة إليه هنا" هو أن نيقولاي رمسكي - كورساكوف (1844–1908) أحد كبار الموسيقيين الروس خلال تلك المرحلة يكاد يكون من ناحية تعنينا، الأشهر بين موسيقيي تلك المرحلة في بلاد الموسكوب لدى المستمعين العرب، في الأقل منذ نهاية خمسينيات القرن العشرين، وذلك بفضل استخدام البرنامج الثقافي في الإذاعة المصرية لقصيدته السيمفونية "شهرزاد"، لتصوير أجواء مسلسل إذاعي عن "ألف ليلة وليلة" كتبه طاهر أبو فاشا، وكان من أشهر المسلسلات الإذاعية في طول العالم العربي وعرضه. وفي سياق هذا العمل الاستشراقي سيتعرف المستمعون العرب لاحقاً على موسيقيين روس آخرين كما على أعمال أخرى لرمسكي - كورساكوف من بينها عمل مشابه له عن "عنترة"، كان قد اشتهر قبل ذلك بأكثر من نصف قرن في باريس، حين استخدم كخلفية لتقديم مسرحية عن الشاعر البطل العربي القديم كتبها بالفرنسية الشاعر اللبناني شكري غانم وقدمت في العاصمة الفرنسية بنجاح، كان فيه للموسيقى الروسية المستخدمة دور كبير في تحقيقه، حتى وإن كانت تلك الموسيقى الاستشراقية الروسية التي ألصقت بعنترة آسيوية وسطى أكثر مما هي عربية!

تيار "الخمسة"

ولكن بعد ذلك بعقود طويلة، ستتعرف نخبة من هواة الموسيقى العرب وربما أيضاً من طريق البرنامج الثاني في الإذاعة المصرية وتحت إشراف حسين فوزي صاحب الفضل الأكبر في توعية كثر من الهواة العرب على الموسيقى العالمية، على تيار موسيقي روسي متكامل يضم رمسكي - كورساكوف نفسه إلى جانب ألكسندر بورودين وموديست موسورغسكي وسيزار كوي، وبخاصة ميلي بالاكيريف الذي كان زعيم التيار ومؤسسه منذ عام 1867. ولسوف تعرف تلك النخبة أن للتيار اسماً محدداً وبسيطاً هو "الخمسة"، حتى وإن انتسب إليه بين الحين والآخر موسيقيون آخرون سرعان ما يتركونه. أما هؤلاء الخمسة فبقوا فيه من البداية إلى النهاية. ولئن كان قد أسس التيار وظل يعتبر واضع "قوانينه" على الضد من تغريب موسيقي صاغه ومارسه موسيقيون كبار آخرون من أبرزهم تشايكوفسكي، فإن رمسكي - كورساكوف سيبقى الأنشط بين "الخمسة" والأكثر التزاماً بالعدد الأكبر من تلك "القوانين"، بدءاً من سلافيته الأصيلة وصولاً إلى نزعته الوطنية الفولكلورية، وطبعاً مروراً باستشراقيته التي تقف في خلفية القصيدتين السيمفونيتين اللتين كانت وتبقى لهما مكانتهما الأثيرة لدى هواة الموسيقى العرب.

بين الأوبرا والسياسة

مهما يكن من أمر، لم يقتصر إنتاج رمسكي - كورساكوف على ذينك العملين طبعاً، فهو خاض التلحين الأوبرالي، وغالباً انطلاقاً من نصوص شعرية وحتى نثرية لبوشكين، كما كتب قطعاً رائعة وذات ميلودية شاعرية غنائية طبعت أجيالاً من موسيقيين روس وغير روس من بعده، مركزاً على توزيع أوركسترالي فاقع في تلاوينه... وهو إضافة إلى ذلك كله اهتم بالتنظير الموسيقي وكذلك بالتدريس. وفوق ذلك نراه، في العقدين الأخيرين من حياته في الأقل، لا يتوانى عن خوض النضالات السياسية ولا سيما تالياً لاندلاع ثورة عام 1905 التي ستكون التمهيد الحاسم لانتصار ثورة 1917، التي ألغت العهد القيصري الذي كثيراً ما كان رمسكي - كورساكوف يبدي عداءً عنيداً ضده، لكنه للأسف لم يعش حتى يشهد زواله ولا تلك المراحل التالية التي سيندم فيها كثر على ذلك الزوال. فهو رحل عن عالمنا عام 1908 أي قبل عام من التقديم الأول لآخر أوبرا كتبها "الديك الذهبي"، التي لخص فيها عالمه الموسيقي كله في قالب فكاهي فولكلوري مدهش، لكنه لخص فيه أيضاً، ومن خلال نص شاعري رمزي لبوشكين، مواقفه السياسية، فأتى أشبه بوصية فنية – سياسية لمبدع كبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وصية بين ثورتين

ومن هنا ما يقال عادة عن أن "الديك الذهبي" وبخاصة في روسيتها الصاخبة وحسها المرح، كانت مساهمة رمسكي - كورساكوف الأساسية في ذلك التغيير الذي عاشته روسيا بين الثورتين. ولعلنا نكون على صواب إذ نفترض أن هذا الجانب "السياسي" كان بالغ الأهمية في هذا العمل المسلي، الذي سوف يقدم بعد ذلك بخمس سنوات بطريقة أخرى، أي على شكل باليه استخدمت فيه موسيقى رمسكي - كورساكوف ضمن إطار نشاط العمل الراقص الكبير الذي أسسه سيرغاي دياغيليف وعرف عالمياً بالباليهات الروسية، ذلك الجانب الذي بسببه منعت الرقابة تقديم العمل فيما كان ملحنه لا يزال حياً ليقدم بعد رحيله في عرض موسكوفي أولاً على خشبة "سولودوفنيكوف" بقيادة إميل كوبر. ولسنا في حاجة ربما إلى الإشارة إلى النجاح الهائل الذي حققه ذلك العرض، والصخب السياسي الذي دار من حوله في زمن كانت فيه تطورات الوضع السياسي وتنازلات النظام قد حجمت من الرقابة وتأثيراتها. ولنضف هنا أن الباليه الكبير الذي تحول إليه هذا العمل الأوبرالي، كان من تصميم ميشال فوكين عام 1914، الذي استخدم تنويعة على موسيقى "الديك الذهبي" لتحويلها إلى مشاهد راقصة على طريقة دياغيليف / فوكين، خارج إطار البعد الأوبرالي للعمل الأصلي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه النسخة الموسيقية الراقصة ظلت هي المعروفة في الغرب لزمن طويل تالٍ، أي قبل أن يصار لاحقاً إلى تقديم الأوبرا نفسها، لتصبح لزمن واحدة من أولى الأوبرات الروسية التي تقدم خارج روسيا.

دودون يريد أن ينام

وتدور حكاية "الديك الذهبي" التي لا يحدد مكان معين تدور الأحداث فيه، انطلاقاً من فلكي يعتلي الخشبة في نوع من التمهيد، يعلن فيه عن بدء "الحكاية التي سيكون لها مغزى أخلاقي". وفور ذلك، ينطلق الفصل الأول حيث يطالعنا الملك دودون وهو يستدعي قائد جيشه الجنرال بولكان وابنيه الأميرين غيدون وآفرون، ليخبرهم بضرورة التوجه إلى الجبهة لمقارعة الأعداء الذين يسعون لغزو البلد، وأن عليهم الإسراع كي يتمكن هو من النوم. وهنا يدور خلاف بين الأميرين والجنرال حول الاستراتيجية التي يتعين اتباعها في مواجهة الأعداء. فيتدخل الفلكي مقترحاً تعليق ديك ذهبي أحضره على الجرس الرئيس في المدينة في مقدوره التنبيه لوصول العدو. ويسر الملك بهذا "الحل المنطقي"، ويعد الفلكي بمكافأة يحددها هذا الأخير لاحقاً إذا ما تحقق النصر ونجت البلاد من الغزو المعادي، ثم يذهب للنوم ليحلم باحتفال راقص كبير تزينه أميرة فاتنة سوف يغرم بها. ولكن في الفصل التالي، وفيما ينهض دودون من نومه وأحلامه وسط ضباب منتشر، يكتشف مرعوباً أن جيشه قد هزم فيما يخوض ابناه قتالاً ضارياً فيما بينهما. وعند الفجر تخرج من خيمة رائعة ملكة شيماخا المجاورة تحتفل ببزوغ الشمس معلنة نيتها غزو مملكة دودون، شرط أن تهلكه قبل ذلك رقصاً وغناءً. فلا يكون من دودون إلا أن يفتن بها ويسحره ذلك الشرط فيطلب يدها للزواج فيما هي تستعد لغزو بلاده!

كلهم من وحي الخيال

وفي الفصل الأخير، يطالعنا الملك دودون عائداً إلى مدينته في موكب صاخب يضم أقزاماً وعمالقة وحيوانات غريبة وعبيداً. وهنا في عز انهماكه بكل هذا، يصل الفلكي مطالباً الملك بما كان قد وعده به، لكن الملك ينكر عليه ذلك فيوسع الفلكي من مطالبه مقترحاً أن يتزوج الملكة. وهنا إذ يعجز الملك عن ردعه عن غاياته يضربه بصولجانه فيقع ميتاً، لكن الديك وبضربة من منقاره يقتل الملك لتتلو ذلك عاصفة عاتية يختفي على أثرها الفلكي والملكة والديك. وفي الختام ينهض الفلكي ليعلن أن الوحيدين الحقيقيين في هذه الحكاية كلها إنما هما هو والملكة، أما كل الباقي فمن وحي الخيال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة