Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصادق المهدي... حين يكون التنظير عبئا

في كل منعطف تاريخي... يقف الرجل على الجانب الخطأ من التاريخ

ظل الصادق المهدي يراقب الحراك الثوري بعد الإطاحة بنظام عمر البشير (رويترز)

ظل الصادق المهدي عبر مساره الطويل في السياسة السودانية، يختبر مزيجاً غريباً من المواقف والمصائر والتحولات لأكثر من نصف قرن، قارب فيه السياسة من أبواب كثيرة: ممارسةً وتنظيراً، وسلطةً ومعارضةً، ليكون اليوم هو المخضرم الوحيد من أجيال الممارسة السياسية السودانية منذ ثورة أكتوبر في العام 1964.

المسار السياسي الطويل للمهدي ظلّ يكشف باستمرار عن تحولات، أبرزها: تجريبٌ مستمر بوحي تقديرات ذاتية للرجل، ينحو به الى اجتهادات فردية (صادمة في غالبية الأحوال) حتى ولو بدا ذلك الاجتهاد لشركائه السياسيين تغريداً خارج السرب.

كشف حالات "غرائبية"

منذ إصراره، في ستينيات القرن الماضي على حيازة منصب رئيس الوزراء بعد ثورة أكتوبر على حساب انشقاق حزبه (حزب الأمة) والتحالف مع حزب غريم لإسقاط رئيس وزراء حزب الأمة المنتخب آنذاك (محمد أحمد محجوب)، لم يكف الصادق المهدي عن كشف حالات "غرائبية" في شخصه، إذ كان الصادق منذ النصف الأول من ستينيات القرن الماضي "يرى نفسه زعيماً فريداً من نوعه، ليس فقط في السودان، ولكن أيضاً، في الدول المجاورة، العربية والإسلامية"، (بحسب وثائق الخارجية الأميركية عن مرحلة الديمقراطية الثانية في السودان ما بعد ثورة أكتوبر 1964).

وهي حالات بدا فيها أكثر شبهاً بندّه وصهره الراحل د. حسن الترابي، وكان الرجلان يتنافسان على أرضية فكرية وسياسية جعلت منهما الثنائي الأكثر شهرةً في مسرح السياسة السودانية.

ردود فعل غاضبة

ربما تبدو هذه المقدمة كافية لتفسير المواقف السياسية الغريبة للصادق المهدي بعد عودته إلى السودان من منفاه قبيل اندلاع ثورة 19 ديسمبر (كانون أول) العام الماضي بأيام، إذ ظل المهدي يكشف عن مواقف غير مفهومة سياسياً، أمام قاعدة حزبه (حزب الأمة) المعارض حين رفض المشاركة في تظاهرات الثورة بحجج وفذلكات غريبة ومستفزة، فأدى موقفه ذلك إلى ردود فعل غاضبة في أوساط الثوار، لا اسيما شباب الحزب، الذين فاجأهم بحديث عن الاحتباس الحراري في عنوان أول ندوة سياسية له عقب مجيئه إلى السودان قبيل الثورة بأيام، وهي مواقف يحار المرء في تأويلها، فلا يجد لها من وجاهة إلا في أسباب ذاتية غامضة للرجل لا تعبأ بخيارات الآخرين وتوافقاتهم.

ولقد عمقت تلك الحالة في المهدي إحساساً متوهماً بأنه دائماً رجل خلاص ما (الصادق المهدي هو كذلك إمام الأنصار) وهو إحساس نابع في تقديرنا، من خزين ضارب العمق في الإحساس بهوية ذاتية متجاوزة. فما يتصوره المهدي عن ذاته، من وهم الاضطلاع بمهام غير عادية حيال استعصاءات تاريخية متعددة الوجهة والمكان، هو أقرب إلى الهوايات الخطرة منها إلى فرص التسويات السياسية.

تقديرات ذاتية

فالرجل الذي طالما أنس في نفسه قدرات عظيمة على إدارة حلول لمواضيع شائكة بطبيعتها، وأقرب ما تكون إلى المآزق منها للمشاكل، كقضايا الشرق الأوسط وصراع الشيعة والسنة والإرهاب (فقط من حيث كونه رئيساً لمنتدى الوسطية العالمي)، لا ينظر أبداً في الخيوط الرمادية الدقيقة لحيثيات تلك القضايا، لأن منطق المقاربة حيالها لديه يرتهن إلى تقديرات ذاتية ليس لها قدرة على رؤية الامتناعات الكامنة في طبيعتها، ولا في طرق النظر إليها، ما يجعل مهامه النسقية في معالجاتها امتداداً بلا أفق.

لهذا قال المهدي لمحاوره، قبل أيام، في لقاء تلفزيوني (أنا عندي طواقي كتيرة) في إشارة إلى مهامه الكبيرة والمتعددة حيال تلك القضايا التاريخية خارج الحدود. وبطبيعة الحال، لا تخلو نزعات كهذه في الصادق المهدي من وهم امتياز خاص في أولوية حصرية له للاضطلاع بمهام تلك القضايا، بينما هو يوهم الآخرين بالزهد عنها، لكنه لا يفارق مركز الضوء فيها، وإن بشكل غير مباشر.

بعد الإطاحة بنظام عمر البشير في أبريل (نيسان) الماضي، ظل المهدي يراقب الحراك الثوري عبر نشاط قوى إعلان الحرية والتغيير (حزب المهدي جزء منها) الذي تولى ريادته قياديون شباب عبر تنسيقيتها، سواء التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، أو عبر المؤتمرات الصحافية التي كشفت عن قدرات وإمكانيات متميزة لهم في مخاطبة الشعب السوداني.

ومشهد جديد كهذا فرض على الصادق المهدي صبراً على مضض، فظل يرصد الموقف عبر ابنته مريم التي كانت ضمن الوفد المفاوض.

وحين قدّمت قوى إعلان الحرية والتغيير وثيقة الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية، اعترض المهدي على الوثيقة وقال إنها لا تمثل حزب الأمة، مع معرفته أن الوثيقة هي وثيقة مؤقتة وقابلة للتعديل (كما أكد وفد تفاوض قوى إعلان الحرية والتغيير منذ البداية على ذلك). وكان واضحاً من ذلك الاعتراض أن الصادق يبحث عن شق لصف قوى إعلان الحرية والتغيير، ما أدى إلى تلكؤ المجلس العسكري باعتراضات على الوثيقة لا علاقة لها بموضوعها، فتعطلت المفاوضات لأيام مع قوى الحرية والتغيير.

محاولة... باءت بالفشل

بعد استئناف المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، والاتفاق على 95 في المئة من هياكل السلطة الانتقالية، دعا الصادق إلى تكوين مجلس رئاسي لقوى إعلان الحرية والتغيير يكون بديلاً عن التنسيقية ووفد التفاوض، في اتخاذ القرارات، في محاولة منه لقيادة قوى إعلان الحرية والتغيير عبر ذلك المجلس الرئاسي، لكن محاولته تلك باءت بالفشل أيضاً، لأن حزب الأمة الذي يرأسه الصادق لا يمثل إلا فصيلاً من تحالف واحد لقوى الحرية والتغيير، التي تتكون من خمسة تحالفات كبيرة، وكل تحالف منها يضم أحزاباً عديدة.

أخيراً، بعد تعليق المفاوضات حول الخمسة في المئة من الاتفاق، على إثر تعنت المجلس العسكري وإصراره على غالبية عسكرية في عضويته مع رئاسة عسكرية لمجلس السيادة، ولجوء قوى الحرية والتغيير إلى خيار الإضراب المؤقت (وكان إضراباً ناجحاً بنسبة 90 في المئة) للضغط على المجلس، اعترض الصادق المهدي على خيار الإضراب (وهو اعتراض تمرد عليه الأطباء وبعض الشباب في حزبه)، وكشف عن تعليل مزدوج وغريب للإضراب في حال فشله أو نجاحه، ما يعني أن الرجل لا يريد من تعليله تأويلاً لمصداقية الخطأ والصواب في رأيه حيال ذلك الإضراب، بقدر ما يريد أن يجعل من ذاته مرجعية لصواب سياسي، تحيل عليه حصرياً.

ألم أقل لكم؟

وهكذا، وفي حال فشل الإضراب، سيقول لقوى الحرية والتغيير ما معناه: "ألم أقل لكم؟" وإذا نجح الإضراب، فهو في نظر إمام الأنصار تصرف يعمق حالة الاستقطاب بين قوى إعلان الحرية والتغيير وبين المجلس، وكأن الأمر بالنسبة إلى الإمام تمريناً فكرياً على قدرات العقل، وليس خاضعاً للعبة السياسة وأوراق الضغط حول تسويات قضايا شأن عام.

مقاربات الصادق المهدي للشأن السياسي، إن أحسنا الظنّ، تنحو إلى تعقيدات وفذلكات نظرية لا تنظر إلى مجريات الواقع وتفاعلاته المستمرة، لهذا فإن القياسات النظرية التي يدّخرها لحلول قضايا العالم العربي والشرق الأوسط والشيعة والسنة، تغلب على طبيعة تفكيره هنا، وتنحو به إلى التنظير المجرّد، لكن ما هو غريب حقاً أن يظل الرجل على عادته هذه لأكثر من نصف قرن في مقاربة قضايا السياسة والفكر والدين.

الجانب الخطأ من التاريخ

واليوم، وسط تسريبات قوية، للذهاب نحو اتفاق نهائي، بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، على مناصفة عضوية المجلس الانتقالي مع رئاسة دورية بين العسكريين والمدنيين (في ما لو تأكد ذلك أمراً واقعاً) ربما لا يعترف الصادق المهدي بخطأ تقديراته، ويخرج حزبه من قوى إعلان الحرية والتغيير، بحثاً عن التفاف آخر للدخول إلى مركز ضوء الساحة السياسية وهو ضوء لا يستغني عنه أبداً.

لقد عمم الصادق المهدي طوال تاريخه السياسي، مساراً ذاتياً متجاوزاً في مقاربة قضايا السياسة بطريقة لا يمكن القول فيها سوى أنها تجسيد لحالة "ما ورائية" يظنها الرجل في نفسه، مهما كانت نتائج الواقع مخالفة لصوابه السياسي واليقيني ذاك، وهو بهذا المعنى ربما كان آخر شخصية سياسية غرائبية، بعد محمود محمد طه وصهره حسن الترابي في تاريخ السياسة السودانية.

وللأسف، في كل منعطف تاريخي يتاح فيه للصادق المهدي تسجيل موقف وطني مسؤول، يقف الرجل على الجانب الخطأ من التاريخ. 

المزيد من آراء