Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وحيد الطويلة يستعيد إشكالية شهريار في "كاتيوشا"

رواية الكاتب تتداخل برواية زوجته وهو على فراش الغيبوبة

شهريار المصري كما يتخيله عادل السيوي (صفحة الرسام على فيسبوك)

تقول "مشيرة"، "لا تغضب من حبيباتك وهن يتصارعن عليك"، مخاطبة زوجها الكاتب "رشيد" وهو جسد مسجى في غيبوبة. كأن رواية وحيد الطويلة "كاتيوشا" (منشورات بتانة)، تعيد إنتاج اللعبة الشهرازدية. كان شهريار ملكاً مخدوعاً في زوجته الخائنة، فأصيب بعقدة من النساء، وقرر أن يتزوج كل ليلة فتاة بكراً ثم يقتلها، إلى أن ظهرت شهرزاد ابنة وزيره، ولجأت إلى "الحكي" كي تنجو برأسها. وجدت في الحكايات منقذاً من الموت، وبدوره وجد شهريار لذة تفوق لذة القتل.

هل "ألف ليلة وليلة" قصة عن استحالة ديمومة الزواج أو الحب المغدور أو شهوة الانتقام أو فتنة الحكي لتجديد أوترميم الحياة؟ تصلح أن تكون كل ذلك، مثلما جاءت "كاتيوشا" لتقص علينا المعاني ذاتها بلغة عصر السوشيال ميديا وتفاصيله.

فعل الخيانة وشهوة الانتقام

أسس فعل "الخيانة" لعقدة شهريار، وشهوة الانتقام ومشروعيته، وفي مفتتح "كاتيوشا" يستعاد الفعل معكوساً، لأن الخائن ليس الزوجة بل "رشيد" الذي استغل ذهابهما إلى المطار، ثم التفت قائلاً، "أحب واحدة غيرك". قد تغفر المرأة نزوة جسدية لشريكها، لكنها لا تغفر اعترافه بحب أخرى. وقبل أن تفيق من صدمة الجملة الأولى صعقها بالثانية، "أحب صديقتك". هنا فارق آخر، لأن خيانة زوجة شهريار كانت نزوة مع عبد، أما خيانة "رشيد" فهي عاطفية ومزدوجة تكسر معنى الحب والصداقة في آن. رد فعل "مشيرة" في السيارة كان سريعاً، "لا أذكر كيف تعاركنا، انقلبت السيارة على ظهرها مرتين". كانت معركة غير محسوبة العواقب، ربما تودي بهما معاً، وانتهى الأمر بتعرض "رشيد" لإصابة بالغة وغيبوبة طويلة.

لم تشعر بالذنب والشفقة عليه قدر شعورها بالرثاء لنفسها وخوفها أن يكون سرها قد انكشف للآخرين، لأن الحب لا يخفى، والأهم من تكون هذه الصديقة "خطافة الرجال؟". فوق أنقاض هذا السؤال شيد الطويلة عمارته الروائية.

لم يكن الأمر بداعي "المعرفة" وحسب، بل التلاعب بتلك الصديقة التي ربما لا تعرف أنه كشف السر لزوجته، والانتقام منها ورد الصاع صاعين. أيضاً مر بخاطرها الانتقام من زوجها الخائن، حتى أنها حلمت بنفسها وهي تنزع عنه الوصلات الطبية التي تبقيه حياً، بالتواطؤ مع ضحية أخرى من ضحاياه.

بؤس الراوية

عندما دخلت شهرزاد مملكة شهريار كانت تعلم بالخطر المهدد لها، وتدرك أنها في مهمة انتحارية لإنقاذ بنات جنسها، أما "مشيرة" فدخلت مملكة "رشيد" الكاتب الشهير بمشاهد رومانسية محفورة في الذاكرة، شعور جارف بالأمان والإخلاص والعقل المتقبل لطيش أونزوات الكُتاب: "كنت واثقة في حبك، واثقة به، كانوا يستغربون مني وأنت تقف أو تجلس مع صديقاتي، أنا من عرّفك عليهن طالما هناك فرصة، وكنت أقول مطمئنة طالما كل شيء أمام عيني، يلعب أمامي وأضحك، نعم كنت أغار وأخفي، ولكن كان لدي إحساس واسع بالأمان". ارتضت، وهي أيضاً كاتبة مثل زوجها، أن تعيش في ظله ولا تصدر أعمالاً، تخففت من نزعة السيطرة والامتلاك حتى توفر له شحن بطارية الخيال والعواطف بضمانة أنها "الحبيبة" الوحيدة.

إنها مثقفة وجميلة ومتفهمة وتقف وراء نجاحه، وتترك له هامشاً للمعجبات والصديقات لالتقاط الصور، والظهور بجواره في حفلات توقيع كتبه. ما الذي يحلم به "كاتب" أكثر من ذلك؟ مع ذلك غدر بها وقوض حياتهما، ألقى بها في متاهة الهواجس والأوهام، وجعلها تسير وهي تكلم نفسها في الشارع. أعادت تفتيش كتبه ومكتبته وصوره، وبأثر رجعي شيدت بناء كاملًا للحياة "الزائفة" التي عاشتها معه.

ثمة امرأة خدعتها بدور الصديقة المقربة، ولا بد من أنها كانت تظهر معهما في الصور والمناسبات وحفلات أعياد الميلاد. كل ما كان عادياً ودالاً على الحب بات ذكرى مُرة لا تجلب لها إلا البؤس والتشوش. ومثلما اختارت شهرزاد أن تروي "حكاية" لشهريار قبل النوم، اختارت "مشيرة" أن تروي الحكاية كلها لـ "رشيد" وهو نائم في غيبوبته، تجلس بجواره في غرفة المستشفى لتحكي وتكتب قصتهما، مضافاً إليها توترات روحها المنكسرة.

مع آخر حكاية تكون كتاب "ألف ليلة وليلة"، وهنا أيضاً بات لدى "مشيرة" روايتها التي أجلتها طويلاً كي تدع لزوجها فرصة رواية فتوحاته في نصوصه. كتبتها وتركت لزوجها أن يختار عنواناً من بين خمسة عناوين مقترحة منها: "النساء يعرفن أكثر من فرويد".

المُروى له

كلتاهما، شهرزاد ومشيرة، كانتا تتوجهان إلى شخص بعينه على وشك النوم أو نائم في غيبوبة، وفي الحالتين كان الحكي أداة إنقاذ من القتل أو من الانهيار والجنون. عندما بدأت تروي لم تكن متأكدة أن "رشيد" يسمع ما تقول، إذ لا تصدر عنه سوى إشارات متباعدة أو مُتوهمة، ولا يختلف الأمر كثيراً مع شهريار.

هل يمكن طرح فرضية أخرى، أن شهرزاد لم تكن تنقذ رقبتها من حد السيف، بل تنقذ شهريار نفسه من عقدته الدفينة، تعيده إلى الشعور بالحب والأمان. تقدم له علاجاً غير مسبوق؟ وبالمثل كانت "مشيرة" تحكي لتستعيد حبيبها "الخائن"، تُبقي على شعرة واهنة تربطه بالحياة، تذكره بالحب الذي كان ويمكن أن يكون مجدداً.

يمنح الواقع للرجل (شهريار) سلطات واسعة، فهو الكاتب الشهير المرموق، ومن يتلقى إعجاب النساء ويلعب دور الصديق الناصح لهن، ومن يبرر الخيانة بدافع الملل أو البحث عن شرارة كتابة جديدة، وأيضاً من لا يستقر على ذوق واحد: "كنت تحب النساء النحيلات في مظهرهن الخارجي، لكنك كنت تحب المرأة نصف الممتلئة في الغرام. كل رجل يتمنى أن يكون بقلبين، بثلاثة أو أربعة، يضع الشقراوات في واحد، وفي الثاني يحشر السمراوات، والثالث الخمريات". هذا الاتساع والتعدد في قلب الرجل لا تعيشه المرأة، فهي أكثر إخلاصاً في عواطفها، تفضل الأمان على لذة التجريب، وقد حاولت "مشيرة" على المستوى السطحي فضح شهريار، وكشف جميع حيله وآلياته في التلاعب بالنساء.

على المستوى الأعمق قامت بعملية تشريح لغرور الذكر وهشاشته في محاولة أخيرة لاستعادة المعنى الحقيقي للحب والأمان اللذين يتجاوزان كل إغراءات وإغواءات الجسد، واختارت له وضعية أن يبقى نائماً كأنه يسترخي أمام معالج نفسي وعاطفي، يتلمس ثغرات روحه على أمل الكشف والاستبصار.

أربع نساء

كانت "مشيرة" تحكي ثم تعيد التأويل وتفتح قوس الاحتمالات في شأن الصديقة الخائنة.

لعبة كانت قابلة لأن تشمل قائمة نساء طويلة، لكنها اكتفت بأربع فقط، مع إشارات عابرة جداً إلى أخريات مثل جارة ضبطتها في سريره. الأولى "النحيلة" التي تأخذ دائماً "مكاناً بجانبك، زوجها اختفى فجأة وأرسل لها ورقة الطلاق من بلد آخر". الثانية "الفتاة الذهبية" المدللة التي سعت إلى متابعة حالته واستصدار قرار علاج له على نفقة الدولة. الثالثة "المحجبة" التي رأتها في المستشفى تضع يدها على جبينه وتتمتم بالأدعية، والتي تقبل أن تكون زوجة ثانية. الرابعة "صديقة الغربة" التي تعيش في بلد آخر. ومع كل اقتراب من الصديقة "الغدارة" تظهر أدلة مضادة، براءة ذمة موقتة للزوج تبقي الأمر لغزاً، فهو أهدى كتابه إلى النحيلة قائلاً "إلى أختي التي لم تنجبها أمي" وسعى إلى الإصلاح بينها وبين زوجها.

والثانية أكدت بالدليل القاطع أنها كان بإمكانها بسهولة أن تتخذه عشيقاً لكنها فضلت "معنى الصداقة". أما الثالثة فأرسلت إليها رسالة حاسمة بأن "رشيد الكاتب الرمادي" ليس النموذج المفضل لها على الإطلاق. وأخيراً الرابعة جاءت عابرة الحدود لكي تعيش مع "مشيرة" واعترفت بحبه، مع ذلك أدركت المرأتان أن اعتراف "رشيد" لا يتعلق بها.

إمكانات مهدورة

توزعت الرواية على 16 فصلاً، إضافة إلى "المشهد الأول" الاستهلالي بصوت الراوي العليم، والختامي "ليس المشهد الأخير"، لأن "مشيرة" في البداية لم تكن قد تولّت مهمة الحكي، وفي النهاية أصيبت بغيبوبة تمنع أن تأتي الكلمة الأخيرة على لسانها. كان بإمكان الرواية أن توزع في أربعة فصول خاصة بكل سيدة كانت موضع شك، وكان بإمكان نساء "رشيد" أن يواصلن الحضور بدلاً من الانقطاع السردي بمجرد استبعاد التهمة. بعد إصابة "مشيرة" وانقلاب سيارتها أربع مرات، عدد السيدات اللواتي شكت فيهن، انتهى مخطوط روايتها في يد "رشيد" الذي أفاق من غيبوبته، وكان ثمة إمكان أن يكثف سرد الزوجة ثم يتاح للزوج تقديم روايته في النصف الآخر.

صحيح أن الرواية قدمت رصداً واسترسالاً ثرياً في دواخل المرأة ببراعة تامة، لكن ثمة لحظات لا تُخفي منطقها الذكوري، وثمة مناطق استطراد كانت قابلة للاختزال.

غلب على أسلوب "رشيد" أيضًا تكنيك التداعي الحر، لكنه ظل "مقيداً" قريباً من سطح الوعي، فندرت الأحلام والشطحات الغامضة، نظراً إلى الحرص السردي على تقديم أدلة، وطرح واضح لمنظوري المرأة والرجل في ما يتعلق بالحب والرغبة والزواج والخيانة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثمة مفارقة بأن الرواية منشورة، مما يعني أن "رشيد" اتخذ قراراً شجاعاً بنشرها حتى وإن انطوت على فضح غرامياته، لكنه ابتعد من العناوين الخمسة التي اقترحتها "مشيرة"، وفضل عنوان "كاتيوشا" المزدوج، فهو يحيل إلى قصة حب بين فتاة وجندي روسي إبان الحرب، والتي خلّدتها أغنية شهيرة.

كما يشير إلى مدفع له سمعة عسكرية جيدة، فهو خفيف وسريع وحاسم، وكأن الكاتب استلهم عنونته من إشارة ثقافية هامشية، والرواية حافلة بالإشارات الثقافية، بعضها معلن المصدر مثل إشارة إلى محمود درويش، وبعضها الآخر من نميمة المثقفين السرية، ويمكن أن تُقرأ الرواية باعتبارها مدفعاً أطلقته "مشيرة" دفعة واحدة من قلبها المجروح، فإما أن تقضي على رجلها نهائياً، أو تستعيده "كاملاً" من حبيبته المجهولة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة