يبدو أن النظام الإيراني ليس في عجلة في الاستجابة إلى الدعوة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الحوار، في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في طوكيو قبل أيام، على الرغم من الإشارات الإيجابية التي حملها كلام سيد البيت الأبيض حول عدم نيته تغيير النظام واستعداده للتعامل مع القيادة الحالية للنظام في طهران.
وتفضل إيران الانتظار لتراقب مدى الجدية الأميركية لفتح قنوات حوارية مع طهران، من خلال تحديد أولويات تشكل مؤشرات إيجابية حول النوايا الأميركية، في مقدمها إلغاء العقوبات التي فرضتها واشنطن على مختلف القطاعات الاقتصادية الإيرانية، وأن لا تضع العراقيل أمام تطبيق الاتفاق النووي مع الدول التي لا تزال ملتزمة به، من الاتحاد الأوروبي إلى الصين وروسيا، مع عدم الإصرار على عودة واشنطن لهذا الاتفاق، وأن توقف تهديد الدول الأوروبية، وأن لا تحول دون قيام تعاون بين إيران ودول الجوار والدول الأخرى.
من هنا يمكن فهم الحراك الدبلوماسي الإيراني والدائرة التي شملها من دول شرق آسيا، لتثبيت التعاون الاقتصادي مع كل من الصين والهند في إطار آليات تنسجم مع الاتفاق النووي وتلتف على العقوبات الأميركية. لكن المحطة الأبرز في هذا الحراك الآسيوي، كانت المحطة اليابانية التي زارها وزير الخارجية محمد جواد ظريف قبل أيام من زيارة الرئيس الأميركي، وحمل فيها معطيات إيرانية تؤهل الحكومة اليابانية للعب دور فاعل في تخفيف التصعيد مع واشنطن، وتؤسس لفتح آلية للحوار في المستقبل تراعي مطالب الطرفين الأميركي والإيراني.
وبالتوازي مع هذا المسار، أطلق ظريف في زيارته إلى العاصمة العراقية بغداد "كلمة السر" الإيرانية، التي تشكل محور الجهود الإيرانية المقبلة، من خلال إطلاق دعوة إلى الدول الخليجية، خصوصاً السعودية، لعقد معاهدة عدم اعتداء بينها وبين إيران، تمهد الطريق لتعاون مشترك في إطار منظومة أمنية إقليمية بمشاركة الجميع. دعوة حملها مساعده للشؤون السياسية عباس عراقجي في جولته على الدول الخليجية الكويت وعمان وقطر، التي تعتبر طهران أنها تقف في منطقة محايدة مع كل من السعودية والإمارات والبحرين، التي تعارض الطموحات الإيرانية التوسعية في المنطقة، انطلاقاً من اعتقاد إيراني بإمكان إحداث خرق في جدار هذه الدول من دور إيران وطموحاتها في المنطقة. بالتالي، توجيه رسالة عبر هذه الدول إلى الإدارة الأميركية بإمكان التوصل إلى تفاهم مشترك حول الهواجس التي تطرحها واشنطن المتعلقة بالتفاوض حول تنامي نفوذها المهدد للاستقرار عبر أذرعها العسكرية المنتشرة في بعض الدول الإقليمية، من خلال بناء هذه المنظومة الأمنية المشتركة.
التفاوض المعلق
عودة الإدارة الأميركية إلى الحديث عن الشروط الـ12، التي أعلنها وزير الخارجية مايك بومبيو في 21 مايو (أيار) 2018، قد تدخل في إطار الحد من الاستنتاجات الخاطئة للنظام الإيراني من المواقف التي سبق للرئيس ترمب أن أطلقها من طوكيو، التي قد يفهم منها أنها تحمل تراجعاً أميركياً أمام "الصمود" الإيراني في مواجهة المطالب الأميركية. ومحاولة لتصويب الموقف وتأكيد الأهداف التي دفعت واشنطن إلى الانسحاب من الاتفاق النووي والعودة إلى فرض عقوبات اقتصادية ومحاصرة النظام في طهران من أجل التوصل إلى اتفاق يكون أكثر صلابة في الحد من الطموحات الإيرانية الإقليمية وما يشكله برنامجاها النووي والصاروخي من تهديد أمني لاستقرار دول المنطقة.
طهران تؤكد من جهتها أنه وعلى الرغم من كلام ترمب الجديد حول النظام الإيراني والتعاون معه، فإنه من الصعب الفصل بينه وبين فريق عمله الذي يمثل الصقور في الإدارة الأميركية، فهو وكل من جون بولتون وبومبيو يعملون من أجل هدف واحد بأساليب مختلفة، تارة باعتماد الحرب النفسية بالتلويح بعمل عسكري وحشد الجيوش مقابل سواحلها، وتارة أخرى بتشديد العقوبات لضرب النظام من الداخل، مع الإصرار على التفاوض والحوار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجهتا نظر
يدور جدل داخل النظام الإيراني حول وجهتي نظر. الأولى تعتقد بأنه لا ضرورة للتفاوض مع ترمب في هذه المرحلة، لأن أي حوار حتى ولو كان من دون نتيجة، سيتحول إلى ورقة قوة في يد ترمب لاستخدامها في معركته الانتخابية للبقاء في البيت الأبيض التي باتت وراء الأبواب، وأن طهران غير مجبرة على التفاوض معه بعد انعدام الثقة بمواقفه التي برزت من خلال تنصله من الاتفاق الذي سبق أن وقعه سلفه حول البرنامج النووي. لكن من دون أن يعني ذلك أنها تنتظر وصول رئيس جديد، لأن أزمة الثقة لن تزول لدى المفاوض الإيراني من المصير نفسه لأي اتفاق جديد. لذلك، فإن البديل هو الصمود في وجه مطالب ترمب والإصرار على العودة إلى تفعيل الاتفاق السابق الموقع في العام 2015.
أما وجهة النظر الثانية، التي يبدو أنها تعمل بصمت وبعيداً من الأضواء، فتعتقد بأن الأوضاع بين الطرفين محكومة بالوصول إلى منطقة وسط بين التهديدات والعقوبات، تسمح بوضع آلية ثابتة لأي تفاهم أو اتفاق قد يحصل بينهما، يتضمن التزامات إيرانية بالتحول إلى عامل إيجابي في المنطقة ولا يعود نفوذها الإقليمي مصدر تهديد لاستقرار دولها، إن كان لجهة دور أذرعها أو برنامجيها الصاروخي والنووي.
وانطلاقاً من اعتقاد جميع الأطراف بعدم رغبة طرفي الأزمة، أي واشنطن وطهران بالوصول إلى الحرب المباشرة، فإنهما يتعاملان بإيجابية مع الجهود التي تبذلها العديد من الدول من المنطقة وخارجها لفتح قنوات دبلوماسية لحل الأزمة بينهما. وتسعى هذه الدول إلى التوفيق بين الهدف الأميركي بالخروج من الأزمة منتصراً من دون حرب، عبر إجبار إيران على الانصياع لمطالبه، وبين سعي إيران إلى الصمود أمام الضغوط القاسية لواشنطن، تحت سقف عدم الوصول إلى تفجير الحرب. أي السير بحذر في رفض التفاوض والمطالب الأميركية والإبقاء على الوضع القائم بانتظار الوصول إلى مخرج للحل، من خلال تعزيز العمل الدبلوماسي.
وهنا يمكن القول إن ما تشهده إحدى العواصم العربية، التي أعلنت نيتها لعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران، من حراك دبلوماسي أوروبي- إيراني مشترك، يعمل على تهيئة ملفات التفاوض التي تشمل جميع المستويات الأمنية والعسكرية والنووية والاقتصادية والإقليمية بما فيها النفوذ الإيراني في المنطقة ودور أذرعها العسكرية في العملية السياسية في بلدانها، إضافة إلى الوجود الإيراني في سوريا وحدود هذا الوجود وآفاقه وأبعاده ودوره، وصولاً إلى الدور الإيراني في الملف الفلسطيني. هذا الحراك يلعب دور الفريق الذي يتولى تحضير ملفات الحوار بانتظار اللحظة السياسية التي يعلن فيها الطرفان قبولهما الجلوس إلى طاولة التفاوض، التي يدفع البعض إلى تأجيلها حتى لا يكون لها دور في الانتخابات الرئاسية الأميركية، في حين يدعو البعض الآخر إلى التعجيل فيها انطلاقاً من التسليم بأن ترمب باق لولاية ثانية في البيت الأبيض.