ثمة مفارقة كتبت عنها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية ونقلتها عنها مجلات أجنبية، تتناول أستاذاً فلسطينياً يقوم بتدريس الشعر الإسرائيلي في الجامعة الإسلامية في قطاع غزة. ليست المفارقة في أن ذلك يجري في غزة، أو بسبب سيطرة حركة "حماس" على القطاع المحاصر، وهو ما يعني صعوبة تصديق الخبر بوصفه يحدث تحت إدارة حركة إسلامية متطرفة تحرم الشعر والموسيقى علانية، بل لأن الشعر الذي يُدرّس للطلاب العرب والمسلمين، هو شعر إسرائيلي.
حين قرأت المقال على صفحات صحيفة "نيويورك تايمز"، وعنوانه: "هذا يحدث في غزة! أستاذ فلسطيني مثير للجدل يعلم الشعر الإسرائيلي بكل هدوء في كلية الآداب في الجامعة الإسلامية"، لم أصدق بداية. البرفيسور رفعت العرير معروف بتغريداته المعادية لإسرائيل وانتهاكاتها حق الفلسطينيين، على مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما فرضها حصاراً قاسياً منذ سنوات طوال، يستمر حتى اللحظة، أدت إلى إيقاف حسابه على "تويتر".
ظننت الأمر مجرد مبالغة تهدف إلى إثارة شائعات غايتها الترويج لمشروع التعايش بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني من باب المشترك الإنساني في الثقافة، لا سيما لشعبين وقعا ضحية جماعية للنزعات العنصرية. محرقة اليهود في أوروبا أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، ونكبة فلسطين 1948 وما تعرض له الفلسطينيون إثرها من تطهير عرقي على يد العصابات الصهيونية، وما تلاه من انتهاكات عنصرية من الجانب الإسرائيلي تستمر حتى يومنا هذا.
ماذا يحدث في الجامعة؟
لا، ليس في المقال أي مبالغة. لا سيما مع تنامي ظاهرة البحث عن حلول التي يقوم بها بعض المثقفين والأكاديميين من الجانبين لبحث إمكانيات التوصل إلى حل عادل يسمح بتعايش الشعبين. هذا على الأقل ما يتبادر إلى الأذهان عند قراءة المقال، الذي جمعت مادته الخبرية سمر أبو علوف مراسلة "نيويورك تايمز" في غزة. ربما من باب محاولات الترويج الغربي لحل "الدولة الواحدة لجميع مواطنيها"، التي دعا إليها من الجانب الفلسطيني البروفيسور أسعد غانم المقيم في الأراضي المحتلة عام 48، أو "الدولة الثنائية القومية" التي اعتبرها البروفيسور إدوارد سعيد إمكانية حل معقولة. على أن البروفيسور سعيد زيداني - أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت - وجد في "دولتين في وطن واحد" حلاً عملياً قابلاً للتطبيق يمهد للشكل النهائي للدولة الواحدة للشعبين، الفلسطيني والإسرائيلي.
وغني عن الذكر أن في تلك الحلول هناك شركاء إسرائيليون من مثقفين وأكاديميين يتشاطرون الرأي في مقترحات الحلول تلك، والتي لا يمكنها أن ترى النور إلا على خلفية ثقافية تتعايش عند حدود المشترك الإنساني للشعبين بمثقفيهما وعلمائهما، بعيداً عن الجوهر الصهيوني العنصري لإسرائيل، بل تشترط هذه الحلول، تفكيك البنية الصهيونية للدولة حين يشتد العصب الإنساني في مواجهة التعصب العنصري الصهيوني. وهذا باعتقادي وظيفة الثقافة والمثقفين بامتياز، أمثال الشاعر الإسرائيلي يهودا عميحاي. ولعل الثقافة بمعناها الإنساني الشامل هي المقدمة التي تنطلق منها هذه اللقاءات.
لكن المفارقة في خبر تدريس الشعر الإسرائيلي، أن ذلك يحدث في الجامعة الإسلامية في غزة. ومن المعروف أن قطاع غزة تديره حركة "حماس" ذات التوجهات الإسلامية المتطرفة، والتي ترفض أي نوع من أنواع التعايش مع اليهود تبعاً لمعتقدات دينية، بوصفهم أعداء تاريخيين للإسلام، ناهيك عن احتلالهم فلسطين.
المفارقة الأخرى، هي في المقلب الآخر. فالأستاذ الجامعي رفعت العرير الذي بادر بتدريس الشعر الإسرائيلي في الجامعة الإسلامية، يقوم بالتحريض ضد إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي وينتفض عليها ويكشف انتهاكاتها بحق الفلسطينيين لا سيما النساء والأطفال، ويظهر عداءه الصارخ لها. لكنه في قاعة المحاضرات، قام بتحليل عمل بعض شعرائها البارزين وفاجأ بعض طلابه – بحسب باتريك كينغسلي الكاتب الصحافي في "نيويورك تايمز" الذي كتب المقال انطلاقا من مادة الصحافية الفلسطينية سمر أبو علوف. كيف يحدث هذا؟
قصيدة القدس
بعد مرور خمس وأربعين دقيقة من أول ندوة له في الصباح، طرح الأستاذ الفلسطيني في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة رفعت العرير سؤالاً على طالباته الجامعيات "السبعين" وهن من الشابات: من كتب هذه القصيدة غير الموقعة برأيكن؟
كانت القصيدة التي ترجمها إلى العربية عن ترجمة إنجليزية غسان أحمد نامق، عبارة عن نص شعري عن القدس يقول فيها الشاعر: "فوق سطح منزل في المدينة القديمة/ غسيل منشور تحت شمس آخر العصر:/ شرشف أبيض لامرأة هي عدوي،/ منشفة لرجل هو عدوي،/ يمسح بها عرق جبينه...".
بالنسبة للطالبات، كانت هوية الشاعر، أو الخلفية على الأقل، واضحة ومسلماً بها. فهذا النص عن القدس، المدينة التي طالما اعتزت الطالبات بها وأحببنها، لكونهن جزءاً لا يتجزأ من الجيل الفلسطيني الشباب غير القادر على مغادرة غزة معظم حياته، والتي لم يزرها قط بفعل الحصار والاحتلال. كتبت القصيدة من منظور متفرج من بعيد. متفرج حزين أحب - مثلهن - المدينة ولكن لم يستطع دخولها.
رفعت سندس الفيومي يدها وهي على يقين تام من الجواب: "القصيدة لفلسطيني - برأيها - يحدق من بعيد في حبال غسيل على سطح منزل في المدينة القديمة". وبحسب تقدير سندس الفيومي (19 سنة): "أنها تظهر رجلاً لا يستطيع الوصول إلى شيء يخصه، ربما منزله الذي استولى عليه الاحتلال". قالت، "أو ربما رجل يعمل في الأراضي المحتلة". أومأت الطالبات بالموافقة على ما قالته سندس. فيما قالت طالبة أخرى وبثقة تامة أيضاً: "فقط الفلسطيني من كان يمكنه أن يكتب بمثل هذا الدفء عن القدس".
لكن الأستاذ رفعت العرير كان يحضر لهن مفاجأة. فقال وهو يبتسم: "شاعر هذه القطعة الجميلة حقاً ليس فلسطينياً"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعقب إعلانه عن أن الشاعر ليس فلسطينياً موجة من الضجيج والتذمر، إذ بدا للصف طالبات ما يعنيه هذا الكلام من منافسة على حب المدينة القديمة "القدس" عاصمة فلسطين. شهقت إحداهن، فيما قمعت سندس الفيومي ضحكة كادت تفلت منها إثر الصدمة التي سببها إعلان الأستاذ العرير، على ما تقول سمر علوف مراسلة "نيويورك تايمز".
وتابع الأستاذ رفعت العرير قائلاً: "نعم. هو ليس فلسطينياً. إنه شاعر إسرائيلي يدعى يهودا أميحاي". لم تكن الدهشة فقط ما استولى على قاعة المحاضرات. كان الأمر أبعد من ذلك. بل كما تصوره باتريك كينغسلس الكاتب الصحافي في "نيويورك تايمز" قائلاً: "كانت لحظة أضافت فارقاً بسيطاً إلى روايتين متناقضتين: تلك التي احتضنتها الطالبات أنفسهن، وكثيرات منهن يعرفن شخصاً قتل أو جرح بسبب الصواريخ الإسرائيلية، وهن غالباً ما يقتصر تفاعلهن مع إسرائيل على الضربات الجوية. أما بالنسبة للعديد من الإسرائيليين، فإن الرواية تفترض غالباً أن نظام التعليم الفلسطيني هو مجرد محرك للتحريض ضدهم. بينما ما نراه هنا كان تقديراً لشاعر إسرائيلي يحبه أستاذ فلسطيني في جامعة شارك في تأسيسها الزعيم السابق لحركة "حماس"، الجماعة المسلحة التي تدير حكومة غزة، ولا تعترف بإسرائيل، وكانت مسؤولة عن عشرات العمليات الانتحارية التي أودت بحياة كثير من الإسرائيليين. يقول الخبراء، إن دراسة الشعر الإسرائيلي في الكليات الفلسطينية نادرة، وإن لم يسمع بها من قبل.
قصيدة "القدس" (أورشليم)
أما قصيدة "القدس" أو "أورشليم" التي كتبها الشاعر يهودا عميحاي فأقدمها هنا في ترجمة قام بها غسان أحمد نامق عن ترجمة بالإنجليزية. والشاعر يهودا عميحاي الذي كان الشاعر محمود درويش معجباً بشعره على رغم العداوة التاريخية، كما صرح مراراً، ولد عام 1924 في مدينة فورتسبورغ في ألمانيا لأسرة يهودية متشددة. كان اسمه عند ولادته لودفيغ بفويفر، لكنه قام بتغييره إلى يهودا عميحاي ومعناه "يحيا شعبي" نحو عام 1946. وهو يعد بالنسبة لكثيرين، في إسرائيل وفي العالم، أكبر شاعر إسرائيلي حديث. كما كان أحد أوائل الشعراء الذين كتبوا بالعامية العبرية. وقد توفي عام 2000.
فوق سطح منزل في المدينة القديمة
غسيل منشور تحت شمس آخر العصر:
شرشف أبيض لامرأة هي عدوي،
منشفة لرجل هو عدوي،
يمسح بها عرق جبينه.
في سماء المدينة القديمة
طائرة ورقية.
في الطرف الآخر للخيط،
طفل
لا أستطيع رؤيته
بسبب الجدار.
رفعنا رايات عدة،
رفعوا رايات عدة،
ليجعلونا نظن أنهم سعداء.
لنجعلهم يظنون أننا سعداء.