يُعد عام 2021 من أطول الأعوام التي مرّت على السودانيين نتيجة ما انطوى عليه من أزمات ما زالت تداعياتها تتفاعل، وكادت تعصف بوحدة البلاد وأمنها واستقرارها، بالدفع بها إلى هاوية التشرذم والتفتت والحرب الأهلية، ومصاف الدول الفاشلة، إذ لم تكد أيام عام 2020 تنتهي حتى انتقلت معها كل أزمات وتعقيدات الأوضاع السياسية والاقتصادية الموروثة المعلقة منذ 2019.
تراكم وتمدد
يمكن اختصار ما تعانيه البلاد بعنوان واحد هو "أزمة الشراكة الانتقالية" بين المكونين المدني والعسكري، التي نمت على رصيد هش ومُتضعضع من الثقة، ووقع الطرفان الوثيقة الدستورية عام 2019، حيث تقاسما بموجبها سلطة إدارة الفترة الانتقالية.
وتفاعلت سلسلة الأزمات الموروثة، وصولاً إلى انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، على الشراكة وإطاحة قوى إعلان الحرية والتغيير، وتجميد مواد أساسية في الوثيقة الدستورية، وإعلان حال الطوارئ، وحل مؤسسات الفترة الانتقالية المتمثلة في مجلسي السيادة والوزراء واعتقال معظم الأعضاء المدنيين بالحكومة السودانية، من بينهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وغالبية قيادات الصف الأول بالأحزاب السياسية.
ذروة الأزمات
وعلى مدى سنوات الممارسة الفعلية للشراكة الانتقالية، شهدت البلاد ذروة أزماتها على كل المستويات، تمثل في تصدع مدني – مدني، وآخر مدني - عسكري، شمل معظم المكونات الاجتماعية والسياسية، فضلاً عن المخاطر الأمنية التي كانت ماثلة وتهدد البلاد، وفوق كل ذلك وضع انقلاب 25 أكتوبر البلاد على شفا حرب أهلية مباشرة في ظل الاحتقان السياسي والاجتماعي وتوفر السلاح خارج المنظومة العسكرية والمدنية، لا سيما في ظل وجود الحركات المسلحة التي ما زالت تحتفظ بكامل عتادها وسلاحها، ما وضع البلاد أمام مخاطر العودة مجدداً إلى العزلة الدولية والمقاطعة الاقتصادية والانهيار الاقتصادي.
وفي الوقت الذي كانت فيه الشراكة المدنية العسكرية تترنح، تصاعدت حدة الخلافات وسط الحاضنة السياسية (قوى إعلان الحرية والتغيير)، الشريك المدني في السلطة، التي تشهد بالأساس صراعاً داخلياً أفضى إلى انشقاقها، ودخل المكون العسكري على خط هذا الصراع، محاولاً اجتذاب إحدى المجموعات المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، والتي يطلق عليها "منصة التأسيس"، التي نظمت اعتصام القصر وساندت مطالب العسكريين، بحل الحكومة الانتقالية، ما عزز انقسامات الشارع السوداني، التي تجسدت في ما عرف بحرب الشوارع السياسية، شارع يطالب بـ"حل الحكومة مسانداً المكون العسكري"، وآخر يريدها مدنية كاملة من دون حتى شراكة العسكر تحت شعار (لا شراكة، لا تفاوض، والردة مستحيلة)، وهكذا تجذر الانقسام وسط الشارع إلى معسكرين متضادين.
وكانت المحاولة الانقلابية الفاشلة، في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي، الشرارة التي أشعلت حرباً كلامية حادة بين الشريكين، وضعت الشراكة على فوهة بركان، تبادل فيها الطرفان أقسى الاتهامات بالسعي للانفراد بالسلطة.
الأزمة الاقتصادية
وأضافت الأزمة الأم وروافدها وما تبعها من انقسامات واعتصامات وإغلاق طرق وموانئ، عبئاً جديداً على الوضع الاقتصادي الهش الموروث، بخاصة بعد أن عملت حكومة الثورة ما بعد نظام عمر البشير، على تطبيق حزمة سياسات لمعالجة الديون الخارجية والتزامات مع صندوق النقد الدولي، وعمدت إلى رفع الدعم السلعي وتحرير سعر الصرف، في وقت بلغت فيه معدلات التضخم ما يقارب نسبة 400 في المئة.
وبات الوضع الاقتصادي المتدهور، الذي زادت من حدته جائحة كورونا العالمية، القاسم المشترك بين كل الأزمات، ودخل ضمن أدوات الصراع السياسي بين مكوني الشراكة الانتقالية، وأصبح مثاراً للخلافات وتبادل الاتهامات بين المدنيين والعسكريين، إذ ظل المكون العسكري يتهم رئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك بالفشل في معالجة الأزمة المعيشية، بينما عزا الأخير سبب الفشل إلى هيمنة الجيش على غالبية موارد البلاد الاقتصادية، وترك نسبة 18 في المئة فقط منها تحت سيطرة الحكومة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأى الاقتصادي عبدالعظيم سليمان المهل أن الشلل الذي يعيشه القطاعان العام والخاص في البلاد سببه ضبابية الرؤية في الوضع السياسي، وما ينتج عنه من خسائر اقتصادية كبيرة يتكبدها كل من القطاع الخاص، ويدفع ثمنها المواطن الضعيف.
ويتفق معه المحلل الاقتصادي محمد الناير في أن المشهد السياسي المضطرب ألقى بظلاله القاتمة على الواقع الاقتصادي الذي يعاني الركود التضخمي المتفاقم.
إغلاق الشرق
وعلى الرغم من الآمال التي انعقدت على توقيع اتفاق السلام ليكون مدخلاً للاستقرار، فإن تفاصيل التنفيذ وتعقيداته حولته إلى جزء من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءاً من الحل، وقد سبقت أزمة مسار شرق السودان، أزمة ملف الترتيبات الأمنية التي كادت تعصف بالاتفاق نفسه، على أثر اتهام الحركات الموقعة على الاتفاق المكون العسكري بالتلكؤ في تنفيذ هذا البند، بيد أن الأزمة الكبرى التي أفرزها اتفاق السلام، كانت أزمة مسار الشرق، الذي يطالب مجلس نظارات "البجا" بإلغائه، كشرط لإنهاء الإغلاق.
وتسببت أزمة إغلاق مجلس تنسيق نظارات "البجا" في شرق السودان ميناء بورتسودان الرئيس على البحر الأحمر والطريق القومي الرابط بينه وبين الخرطوم، مدة 45 يوماً متتالية، في إضعاف الإيرادات القومية ما أنهك الميزانية العامة للدولة، وظهرت أزمات متتالية، في الوقود ورغيف الخبز والسكر والمواصلات والكهرباء.
وعلى صعيد شرق السودان أيضاً، هناك التوتر الحدودي مع إثيوبيا بعد استعادة الجيش السوداني أراضي منطقة "الفشقة"، ما قد يهدد بمواجهة شاملة في أي لحظة، وتشكل الاشتباكات المسلحة الأخيرة نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أحدث تداعياتها المتجددة، فضلاً عن تقاطعها مع قضيتي سد النهضة والملء الثاني له.
الاتفاق السياسي
وفي محاولة لإصلاح ما أفسده انقلاب 25 أكتوبر الماضي، وبعد وساطات وضغوط دولية وإقليمية ومحلية، جاء الاتفاق السياسي (البرهان – حمدوك) كطريق وسط وخطوة أولى على طريق استعادة النظام الدستوري من دون العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع إلى ما قبل الانقلاب، لكن الاتفاق السياسي نفسه أحدث تصدعات جديدة في الجبهة الداخلية، أدت إلى انقسام شارع الثورة نفسه، بين مع وضد حمدوك، شق يتهمه بخيانة الثورة وموالاة المكون العسكري، وآخر يرى في الاتفاق شراً لا بد منه لتلافي انهيار البلاد وأهداف ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019، في وقت تتواصل التظاهرات والاحتجاجات رفضاً للانقلاب والاتفاق معاً في مختلف أنحاء البلاد.