Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إجماع الآراء لا يصنع علما

حتى لو توافقت آراء المجتمع العلمي في لحظة ما على رأي محدد، ليس من مبرر لعدم الاختلاف والسعي للحصول على نظرة اخرى

تحطيم الحدود السائدة هي من المهمات التي لا يتوانى العلماء عن النهوض بها، وهو ما حصل مع الميكرسكوب الضوئي النانوي. (موقع "دايركت اندستري.نت")

في مقالي الأسبوع الماضي (موجود على موقع "اندبندنت عربية" بعنوان"التغلّب على الانحياز المعرفي ولقاء المستشارة ميركل")، عرضتُ الانطباعات والأفكار التي راودتني لدى لقائي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مؤتمر احتفالي عُقِد بمناسبة الذكرى الـ25 لسقوط جدار برلين. ومباشرة عقب انتهائي من إلقاء محاضرتي، صعد إلى المنصة البروفيسور شتيفان هيل، وهو متخصّص في الفيزياء، ليقدّم محاضرته. ودُهِشْتُ عندما اقتبس البروفيسور هيل بعض كلماتي وأفكاري في مقدّمة محاضرته وختامها، مع أنها لم تستمر سوى 12 دقيقة. (من المستطاع مشاهدة محاضرته على الرابط الإلكتروني التالي https://vimeo.com/112087859).

آنذاك، لم تكن قد مضت سوى أشهر قليلة على فوز البروفيسور هيل بجائزة نوبل للكيمياء، وكذلك تعتبر قصّة حياته ومساره المهني مصدراً للإلهام على نطاق واسع. إذ يعتبر نموذجاً من أولئك العُلماء الذين يُضرب جدار من الصمت حول أفكارهم لمجرد كونها مخالفة لأفكار نمطيّة دوغمائيّة تكون سائدة في المجتمع العلمي (على غرار ما جرى مع غاليليو)، إضافة إلى كونه دليل على أن الإجماع وحدَهُ لا يصنع علماً.

وفي ختام محاضرة شتيفان، أصابني شيءٌ من الذهول. وعلى الرغم من إعجابي بمنجزاته العلميّة، إلا أنني لم أعتقد بوجود رابط لها مع الأفكار الأساسيّة في بحوثي. وبوصفي متخصّصة في الكيمياء، كنتُ دوماً على قناعةٍ راسخة بأهمية السيطرة على جزيئات المواد، بمعنى القدرة على وضعها في حال الاشتغال ثم نقلها إلى حال الانطفاء والتوقّف، مثل حال زر تشغيل الكهرباء وإطفائها. وكنتُ أُنفِّذْ ذلك الانتقال بواسطة الضوء غالباً، وفي مرحلة لاحقة صُرتْ استخدم حال الالتهاب في الأنسجة كي أتوصّل إلى تلك الغاية نفسها. وأنهى البروفيسور شتيفان محاضرته بإعطاء ملخّصٍ جميل قوامه أنّ الفكرة الأساسيّة في بحثه الفائز بجائزة نوبل، تعتمد كليّاً على مناقلة الجزئيات بين حالتي التشغيل والانطفاء. وكانت اخر كلمات محاضرته هي، حرفيّاً، "أحياناً، تكون الفيزياء فعليّاً بمثل تلك البساطة".

البروفيسور هيل هو ألماني وُلِدَ في رومانيا الشيوعيّة. في مراهقته، انتقل إلى ألمانيا، وصار من مواطنيها. نال شتيفان هيل دكتوراه في الفيزياء عن بحوثٍ تتصل بتفحّص التراكيب البيولوجيّة بواسطة الميكروسكوب الضوئي. بعد الدكتوراه، ركّز هيل بحوثه حول صنع ميكروسكوبات ضوئيّة أكثر قوّة ودقّة.

تُمَثّل الدقّة الميزة الأكثر أهمية في الميكروسكوب الضوئي. وكان هيل أول من بَرهَنْ نظريّاً وعمليّاً على إمكانيّة رفع مستوى الدقّة في الميكروسكوب الضوئي إلى أبعد مما كان معتقداً به في المجتمع العلمي العالمي. ومنذ الأعمال العلميّة التي أنجزها آرنست كارل آبي في 1873 عن الميكروسكوبات الضوئيّة، كانت الدقّة التي سعى هيل إليها تُعتَبر مستحيلة. وفي المجتمع العلمي، تشتهر تلك الأعمال تحت مسمّى "مُعادلة آبي"، وهي ترسم الحدود القصوى لمقدار الدقّة التي تستطيع صور الميكروسكوب الضوئي أن تكون عليها. وفي مستهل التسعينيات من القرن العشرين، حاجج شتيفان هيل لمصحلة القول بإمكانيّة كسر الحدود التي رسمتها "مُعادلة آبي". وبعد 15 سنة من عمل دؤوب شارك فيه عُلماءٌ كثيرون، خصوصاً متخصّصون في الكيمياء، أمكن التوصل إلى تقنيّات استعملها هيل في صنع ميكروسكوب ضوئي يعمل على مستوى النانومتر (وهو جزء من المليار من المتر)، ويعطي دقّة تتجاوز الحدود التي رسمتها "مُعادَلَة آبي".

بعد ذلك اللقاء في برلين، دعاني شتيفان هيل إلى ندوة علميّة مُغلقة يعقدها سنويّاً في "معهد ماكس بلانك" بألمانيا. ونِلتُ شَرَفَ أن أكون من بين عشرة عُلماء اكتفى هيل بدعوتهم إلى تلك الندوة. وأخبرنا أن مجموع أعمالنا بإمكانها أن توصِل إلى تحقيق الاختراق العلمي المقبل في علوم الضوء. وأثار الأمر دهشتي لأن الزملاء الآخرين كانوا عُلماء فضاء، وبعضهم متخصّص في التصوير البيولوجي بواسطة الموجات الصوتيّة. وآنذاك، لم أعرف ما علاقة أعمالي العلميّة بما تشتغل عليه تلك الصفوة العلميّة، ولا حتى علاقة أعمالهم مع بحوثي! ولكن، عندما استمعتُ إلى الشُروحات العلميّة التي قدّمها كلٌّ منهم، أدركتُ أنني كنتُ جزءاً من مشهديّة أكثر اتّساعاً، بل أحملُ بين يدي إحدى القِطَعْ التي تتألف منها تلك المشهديّة. وعرفتُ أنه إذا توصّلنا نحن العشرة المجتمعون هناك إلى غايات بحوثنا، فلسوف يصبح الشيء الذي ابتكرتَهُ (الوصول بالمواد إلى حالة تصبح فيها قريبة من التجاوب مع موجات الضوء تحت الحمراء)، أداةً عمليّةً مفيدةً في العلوم والصناعة والطب. وبالنسبة لي، كانت تلك الندوة هي المحطةُ الأكثر إلهاماً على الإطلاق، وهي تذكار مستمر لي عن ضرورة النظر إلى أبعد من الحدود المباشرة لحقل اختصاصي، لأن ذلك يساعدني في تحقيق أهدافي العلميّة.

في تلك البقعة الرائعة من جبال تغمرها الثلوج في مقاطعة "بافاريا" الألمانيّة، وفي قلعة منحها أمير ألماني إلى "معهد ماكس بلانك"، أخبرني شتيفان هيل قصته الخاصة عن مساره العلمي. وبيّن ضخامة العقبات التي واجهها في المجتمع العلمي. ووصف تفاصيل سعيه كشاب روماني مهاجر، في ألمانيا ثم بقية أوروبا، إلى الحصول على تمويل بحثٍ هدفه تحطيم قانون سائد ينص على أن فكرته (بشأن رفع دقّة الميكروسكوب الضوئي) هي مستحيلة تماماً. وأورد الكلمات العلميّة والشخصيّة التي استُعمِلَتْ في تثبيط مسعاه، وكانت كفيلة بتحطيم أي شخص اخر. ولكن، بعد عشر سنوات، نال تكريماً سنيّاً عن إنجاز علمي ظنّه الجميع مستحيلاً. وفي 2014، كوفئ بمنحه جائزة نوبل تكريماً للتأثيرات التي أحدثها عمله في حقول مثل علوم الحياة والبحوث الطبيّة.

وآنذاك، بدا أمراً طيّباً بالنسبة لألمانيا أن يُحرِزَ ألماني من أصل أوروبي شرقي، جائزة نوبل، بل احتفت به تلك البلاد أيضاً. وقد وضعت تلك الجائزة حدّاً لحقبة من الجفاف في تكريم البحوث الألمانيّة في الكيمياء، وكذلك جاءت في السنة التي احتفت البلاد فيها بالذكرى الـ25 لسقوط جدار برلين.

ثمة عِبَر كثيرة في تلك القصة، خصوصاً المفهوم القائل بأنّ إجماع الآراء لا يصنع علماً. وفي تلك السنة أيضاً، ألقت المستشارة أنجيلا ميركل خطاباً جاء فيه "في أحيان كثيرة، يُدهِشْ الأثر الذي يولّد ابتكار أو اكتشاف، حتى العلماء والمهندسين والمكتشفين أنفسهم".

أُحسّ بالامتنان للبروفيسور ستيفان لأنه قاوم أصواتاً كثيرة سعت لإحباطه وإخماد صوته، وكذلك لأنه بيّن لي أن عملي هو جزء من "بازل" علمي واسع، بل فائق الاتّساع.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء