مع تواصل تردّي الأوضاع المالية لتونس وسط تدني جلّ المؤشرات الاقتصادية، ينتاب المواطنين شعور بل قناعة بأن أوضاعهم المعيشية لن تتحسن، وستزداد سوءاً في الفترة المقبلة، خصوصاً العام المقبل بسبب المنحى التصاعدي غير المبرر لحركة أسعار كل المنتجات، وما قد ينتظرهم من إجراءات قاسية وموجعة من الحكومة الجديدة.
وتتذمر الطبقات الوسطى، لا سيما الفئات المتوسطة الدخل في تونس من غلاء المعيشة، كونهم أضحوا غير قادرين على مجاراة النسق الكبير لارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية والمنتجات الفلاحية الطازجة، بل إنهم وبشهادة كثيرين منهم، أصبحوا غير قادرين على اقتناء كيلوغرام واحد من اللحم الذي وصل سعره لدى القصابين إلى أكثر من 28 ديناراً (9.6 دولار).
ويقرّ طارق بن جازية، الرئيس المدير لشركة اللحوم (حكومية) بتراجع استهلاك التونسي من اللحوم الحمراء من معدل 11 كيلوغراماً سنوياً قبل 2011 إلى 9 كيلوغرامات سنوياً في الوقت الراهن.
وأكد أن هذا المعدل من استهلاك التونسيين للحوم الحمراء، يُعدّ من أضعف المعدلات العالمية بسبب تراجع القدرة الشرائية.
نسق غير محتمل
وقال تونسيون لـ"اندبندنت عربية" أثناء جولة في السوق المركزية وسط العاصمة وهي من أكبر وأهم الأسواق، إن أوضاعهم المعيشية تردّت كثيراً، وإنهم غير متفائلين بتحسن الأوضاع في الأشهر المقبلة.
وأقرّوا صراحة بأن مستوى الأسعار لم ينخفض بل زاد بشكل غير مبرر، معتبرين أنه حالياً في فصل الشتاء من المفروض أن تكون أسعار المنتجات الفلاحية الطازجة معقولة، غير أن العكس هو الذي يحصل بتسجيل زيادة كبيرة في أسعار الخضر والغلال.
مسألة أخرى استغرب منها المتابعون للوضع المعيشي في تونس، وهي أن أسعار لحوم الدواجن المعروفة بأنها خيار الطبقات الضعيفة والفقيرة لأن أسعارها مقبولة وفي متناول هذه الطبقات، إلا أنه منذ أشهر عدة، أصبحت أسعار اللحوم البيضاء تقارب أسعار اللحوم الحمراء، علاوة على أن الطبقات المتوسطة والمقتدرة أضحت بدورها تُقبل على اقتناء اللحوم البيضاء.
البنك المركزي يعبّر عن مخاوفه
وعبّر محافظ البنك المركزي التونسي مروان العباسي في مناسبات عدة عن مخاوفه من إمكانية توجّه نسبة التضخم في البلاد نحو الارتفاع العام المقبل.
وأرجع هذه المخاوف إلى أسباب عدة منها انتعاش الطلب وكذلك إلى النمط التصاعدي في أسعار برميل النفط.
وشدد العباسي، في هذا السياق، على ضرورة التكامل بين السياسات الجبائية والمالية والاقتصادية، علماً أن نسبة التضخم بلغت 6.3 في المئة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021.
وبيّن أن البنك المركزي التونسي عندما رفع نسبة الفائدة المديرية منذ عامين، أسهم في المحافظة على نسبة التضخم، لكن لا بد من وضع سياسة جبائية واقتصادية تتماشى مع السياسة النقدية بما يتيح الخروج من الأزمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حيرة وانشغال
ولا تلمس في تصريحات المتابعين ارتياحاً وطمأنينة، بل تخوّف وحيرة من الأوضاع المعيشية التي تزداد تردّياً بسبب الارتفاع المتواصل للأسعار في المجالات كافة، مستغربين ما وصفوه بالحركة "الجنونية للأسعار".
وعبّروا في تصريحاتهم عن مصير الأوضاع المعيشية في الأشهر المقبلة، رابطين ذلك بتصريحات المسؤولين الحكوميين بإعداد مخطط إنعاش اقتصادي سيتضمن إجراءات عاجلة، إلى جانب إعداد برنامج إصلاحات ضمن خطة الحكومة الجديدة في تفاوضها مع صندوق النقد الدولي.
ولئن يجهل عموم التونسيين مضامين الخطة الإصلاحية، فإن عدداً من المحللين يرون أن الحكومة من أجل الحصول على التمويل الضروري للموازنة المقبلة، فقد ترضخ إلى شروط أو إملاءات صندوق النقد الدولي بوجوب القيام بإجراءات "موجعة"، لعل في مقدمتها رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء، علاوة على الضغط على كتلة الأجور، ما يعني أنه يقع تجميد الزيادات في الأجور، بالتالي سيضاعف من متاعب التونسيين ويغذي الشعور بالضيم والحرمان في ظل غلاء المعيشة.
وجوب تغيير سياسة الأسعار لفائدة المستهلك
وأقرّ لطفي الرياحي، رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك (مستقلة) بوجود غلاء في الأسعار في البلاد، وأن هذا الغلاء متواصل، لكنه شدد على أنه بالإمكان الضغط على الأسعار باتخاذ إجراءات اعتبرها بسيطة.
وقال "على رئيس الجمهورية قيس سعيد إصدار مراسم رئاسية تضبط هوامش الربح التي تعتمدها حالياً المساحات التجارية الكبرى، الأمر الذي سيخفض نسبياً من الأسعار"، وفق اعتقاده.
كما اقترح أن يقع اعتماد الوصفة الطبية العلمية بدلاً من الوصفة الطبية التجارية للأدوية، التي تشهد ارتفاعاً صاروخياً في المدة الأخيرة.
وفسّر في هذا الصدد أن الوصفة الطبية العلمية تتضمن عدداً من الأدوية التي يكون سعرها مقبولاً، بينما الوصفة الطبية التجارية تعتمد على الاسم التجاري للدواء الذي يكون سعره مرتفعاً عادة.
ودعا الرياحي إلى وجوب تغيير بعض القوانين التجارية، لتكون في خدمة المستهلك لا في خدمة ما وصفه بـ"لوبيات التجارة" في البلاد.
وأبرز ضرورة أن تقوم وزارة التجارة التونسية بتسقيف كل المنتجات الاستهلاكية من أجل الضغط على أسعارها، لا تسقيف بعضها على غرار البيض واللحوم الحمراء والبطاطا، التي لم تشهد التزاماً بالتسعيرة الجديدة من قبل التجار.
وخلص إلى التحذير من تصاعد وتيرة الأسعار، ما سيؤجج الأوضاع الاجتماعية في البلاد، داعياً إلى تطويق الأسعار في الفترة المقبلة حفاظاً على ما تبقّى من القدرة الاستهلاكية للتونسيين.
تحركات نقابية من أجل الزيادة في الأجور
وأمام تواصل الاحتقان في صفوف موظفي القطاع العام وعمال القطاع الخاص نتيجة انخفاض مقدرتهم الشرائية، وسط ارتفاع متطلبات الحياة اليومية وما رافقها من زيادة نشيطة في غالبية المنتجات، بدأت التحركات على المستوى النقابي بالضغط من أجل إقرار زيادات في الأجور، ما ترفضه منظمة الأعراف المتعللة بصعوبة الأوضاع الاقتصادية للشركات.
وفي هذا الإطار، التقى رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سمير ماجول، الجمعة 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، لبحث الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام في البلاد، بعد بيانات متبادلة تصاعدت حدّتها أخيراً.
وتبادل الطرفان "وجهات النظر حول عدد من الملفات المشتركة من بينها المفاوضات الاجتماعية (الزيادة في الأجور) والعمل على إنهائها في أقرب الآجال بهدف خلق مناخ اجتماعي سليم".
ويشار إلى أن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية قد نشر بيان مجلس رؤساء الجامعات القطاعية الوطنية التابع له، الأربعاء 3 نوفمبر 2021، الذي جاء فيه أن أصحاب المؤسسات والفاعلين الاقتصاديين "فوجئوا بتصعيد اجتماعي خطير من الاتحاد العام التونسي للشغل، بدأ بتنفيذ إضراب عام في ولاية صفاقس، والتلويح بجملة من الإضرابات في عدد من الولايات الأخرى، وذلك تحت غطاء الدعوة إلى التفاوض والزيادة في الأجور، وبحملة شيطنة جديدة لأصحاب المؤسسات التجأ فيها أصحابها إلى الافتراء والتجييش وكيل أبشع التهم المغرضة للمستثمرين وأصحاب العمل"، وفق البيان.
ارتفاع نسبة التضخم
وتأكيداً على المنحى التصاعدي لحركة الأسعار، ما انفكت نسبة التضخم عند الاستهلاك ترتفع تدريجاً في تونس منذ بداية العام الحالي، لتبلغ 4.9 في المئة في يناير (كانون الثاني)، ثم 5 في المئة في أبريل (نيسان) بعدها 5.7 في المئة في يوليو (تموز)، ليتواصل النسق التصاعدي إلى مستوى 6.3 في المئة في أكتوبر.
ويفسّر هذا الارتفاع، بحسب المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، أساساً، بتطوّر نسق ارتفاع أسعار الملابس والأحذية من 7.8 في المئة خلال سبتمبر إلى 8.6 في المئة خلال أكتوبر، وكذلك أسعار مواد وخدمات التعليم من 6.1 في المئة في سبتمبر إلى 7.8 في المئة خلال أكتوبر 2021.
وبخصوص أسعار المواد الغذائية، أشارت مؤسسة الإحصاء إلى تراجع طفيف في وتيرة ارتفاع أسعار تلك المواد إلى 7 في المئة مقابل 7.2 في المئة خلال سبتمبر 2021.
ويُعزى هذا المعدل إلى ارتفاع أسعار لحوم الدواجن بنسبة 27.3 في المئة وزيت الزيتون بنسبة 23 في المئة والبيض بنسبة 14.4 في المئة والغلال الطازجة بنسبة 13.7 في المئة والأسماك الطازجة بنسبة 8.3 في المئة.
وزادت أسعار المنتجات المصنّعة بنسبة 7.5 في المئة على مدى عام، بسبب زيادة أسعار المنتجات الصيدلانية بحوالى 8.5 في المئة، ومواد البناء بنسبة 12.4 في المئة والملابس بنسبة 8.6 في المئة، وأسعار مواد صيانة المنزل ومواد التنظيف بنسبة 5.9 في المئة.
وشهدت بدورها، أسعار الخدمات ارتفاعاً بنسبة 4.6 في المئة، في ظل زيادة أسعار خدمات المطاعم والمقاهي بنسبة 6.5 في المئة، وأسعار خدمات الصحة بنسبة 6 في المئة وأسعار إيجار المحال بنسبة 4.5 في المئة.