القرن الحادي والعشرون مرشح لأن يكون "القرن الصيني"، من حيث راهنت الولايات المتحدة على جعله امتداداً للقرن العشرين الذي كان "القرن الأميركي". وليس أكبر من تحديات "الهوس المتبادل" بين أميركا والصين سوى الأخطار وبعض الفرص أمام العالم. فالرئيسان جو بايدن وشي جينبينغ يكرران القول إنهما لا يريدان حرباً باردة جديدة. والدكتور هنري كيسينجر يحذر من حرب باردة "يمكن أن تقود إلى محرقة". لكن الحرب الباردة حقيقة واقعة بين قوة عظمى قلقة من صعود قوة عظمى هي بدورها قلقة من محاولات لعرقلة صعودها. قوة ربحت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، ثم "خسرت سلام ما بعد السوفيات"، كما يقول إم. إي. ساردت في مقال نشرته "فورين أفيرز" تحت عنوان "احتواء أبعد من حرب باردة". وقوة تمارس استراتيجية إضعاف النفوذ الأميركي في آسيا ثم الحلول محله في اتجاه السيطرة على نظام كوني. وهما تتحكمان بكثير من مسارح اللعبة في الكون، ومحكومتان بما لا مهرب منه بحسب دروس التاريخ: "التنافس الحتمي". والمفارقة أن أميركا هي التي ساعدت الصين في الصعود، كما يقول البروفيسور جون ميرشيمر. كيف؟ أميركا مارست سياسة "الانخراط" مع الصين لتقوية "احتواء" الاتحاد السوفياتي. وحين ربحت الحرب الباردة وانهار الاتحاد السوفياتي، أكملت سياسة "الانخراط" والتسهيلات التجارية والتكنولوجبة، بدل تغيير التوجه والعمل على "إبطاء" الصعود الصيني وممارسة "الاحتواء". والحجة التي أكدت الأحداث والوقائع خطأها كانت أن الصين الأكثر ثراء، ستصبح "ديمقراطية وحاملة أسهم مسؤولة في النظام العالمي"، إذ ازداد التشدد الأيديولوجي وضبط الحزب الشيوعي لكل شيء مع تنامي الثراء الصيني.
ومن السهل، نظرياً، الحديث في واشنطن وبكين عن معادلة "التنافس والتعاون" التي سمّاها البروفيسور جوزف ناي بـ"منافسة تعاونية". لكن، من الصعب عملياً إدارة استراتيجية يراد منها تحقيق هدفين متناقضين. والخطير، كما يرى البروفيسور ناي، أن تمارس أميركا سياسة الشطرنج التقليدي القائم على بعدين، لأن المنافسة مع الصين "لعبة ثلاثية الأبعاد". وهي "ستخسر" إذا واصلت لعب الشطرنج ثنائي الأبعاد. أما الممكن، فإنه ترتيب علاقة تقوم على "الضعف المتبادل"، إذ "لا إرادة، لا قدرة لأي من القوتين على التهديد بحرب نووية من دون مواجهة التدمير الذاتي"، بحسب الخبير الصيني تونغ زهاو. وأما المتوقع، فإنه رهانان مختلفان: رهان أميركا على ردود فعل الدول المجاورة للصين المنتقلة من "قوة برية" إلى قوة بحرية وجوية، توسع نفوذها للسيطرة على أوراسيا من خلال مشروع "الحزام والطريق". ورهان الصين على قلة الصبر الاستراتيجي في أميركا ومتاعب التزامات "قوة بحرية" حيال حلفائها في منطقة بعيدة منها هي "الإندوباسيفيك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن أميركا تبدو خاسرة سلفاً في حرب باردة مع الصين. ففي الحرب الباردة التي ربحتها أميركا مع الاتحاد السوفياتي، كانت الصين إلى جانبها في اللعبة الثلاثية على القمة. وفي الحرب الحالية، تقف روسيا والصين في جبهة واحدة ضد أميركا. حدود الانقسام والمواجهة كانت واضحة وتتركز في أوروبا، حيث ميدان حلف "ناتو" وحلف "وارسو". وهي اليوم موزعة على مناطق عدة، أبرزها مسألة تايوان. ضوابط الحرب الباردة القديمة كانت كبيرة لمنع التحوّل حرباً حارة. وهذا ما تأكد في أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا وأزمة برلين. وضوابط الحرب الباردة الجديدة ليست كافية لمنع الصدام المسلح إذا قرّر شي استعادة تايوان إلى البر الصيني بالقوة، فضلاً عن أن اللاعبين الأميركي والصيني شريكان في الاقتصاد العالمي، بعكس ما كانت عليه الحال مع الاتحاد السوفياتي. الصين توظف تريليونات الدولارات في سندات الخزانة الأميركية. وأميركا تدير شركات كثيرة في الصين. وحجم التجارة بينهما يصل إلى ستمئة مليار دولار سنوياً.
يقول الشاعر الإغريقي أرخيلوس "الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً". أستاذ التاريخ في "هارفارد" نيال فيرغوسون يستشهد بالقصيدة ويقول "أميركا هي الثعلب، والصين هي القنفذ". سياسة أميركا "مبعثرة وتتحرك على مستويات عدة". وسياسة الصين هي "ربط كل شيء برؤية داخلية موحدة شاملة لا تتغيّر". والعالم حائر في التمييز بين الأخطار والفرص في التنافس والتعاون وحرب باردة بين شريكين: ثعلب وقنفذ.