Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النيجيرية أويينكان بريثويت تعتمد طرقا غير مألوفة للجريمة

"أختي قاتلة متسلسلة" تجسد أبعادا نفسية في روايات القتل والغموض

الروائية النيجيرية اويينكان بريثويت (صفحة الكاتبة على فيسبوك)

الغموض، التشويق، الإثارة، وحبس الأنفاس، هي الغاية من قراءة الروايات البوليسية، وهي ذاتها السمات التي جعلت هذا اللون من الأدب، يحظى بأعلى معدلات القراءة في مختلف الثقافات. تدور أحداث هذا النوع من الروايات في فلك جريمة ما، وغالباً ما تكون جريمة قتل، ثم يتجه الكاتب عبر سرد مشوق للكشف عن الجاني، لكن الكاتبة النيجيرية أويينكان بريثويت، في روايتها "أختي قاتلة متسلسلة"، الحاصلة على جائزة لوس أنجليس لأدب التشويق والغموض 2019، والصادرة أخيراً في ترجمة للعربية (دار العربي بترجمة محمد عثمان خليفة)، قررت الكشف عن هوية الجاني، والمجني عليه، ومسرح الجريمة، منذ اللحظة الأولى للسرد. أما طريق الغموض الذي كان عليها أن تسلكه، فكان طريقاً مغايراً، لا يهتم بالكشف عن ملابسات الجريمة، بقدر ما يركز على دوافعها، والغوص في أعماق الشخوص، في محاولة لفهم ما أصابها من عطب، أزال عن الجريمة فظاعتها، وأكسبها بدلاً عن ذلك صفة العادية والمألوف.

ومثلما سلكت طريقاً مغايراً في تناول الجريمة، لم تمنح الكاتبة البطولة الأولى للجاني، ولا لذي صلة بالضحية، وإنما منحتها وصوت السرد معاً، لأخت القاتلة "كوريدي"، التي لم تشارك في القتل، ولكنها شاركت في إخفاء الأدلة، وفي حماية أختها القاتلة "أيولا". فكانت شريكاً غير مباشر، تسبب في زيادة حصيلة الضحايا.

تشوه نفسي

تبدأ الأحداث بإعلان الراوية عن جريمة قتل ثالثة ارتكبتها أختها، وهو ما جعلها قاتلة متسلسلة. ولم تبرز أويينكان أسباب الجرائم ولا ملابساتها، لتشي بغياب أي دافع منطقي للقتل. وتحصر الأمر في التشوه النفسي للقاتلة، ثم راحت تلاحق طفولتها لتتبع أسباب ذلك التشوه، وتكشف عن معاناة قاسية، خاضتها كلتا الأختين مع أب لا يخضع بأي صورة من الصور للتصنيف الأبوي، فأكسبت نسيجها بعداً نفسياً زاد من درامية وتشويق الأحداث.

بدا منذ اللحظات الأولى للسرد، تأثر الكاتبة بالميثولوجيا اليونانية، عبر استدعائها شخصية "أخيل"، بطل الأسطورة الإغريقية، ومحاولة إبراز التماثل بينه وبين القتيل "فيمي" مفتول العضلات، الذي لم تقف بنيته الضخمة، حائلاً في وجه الطعن، فعبر الموت إليه مثلما عبر إلى "أخيل" على الرغم من أن جسده غمرته مياه نهر ستيكس التي تقي من الموت وتمنح الخلود. وعلى الرغم الطابع البوليسي والدرامي للسرد لم تنفك الكاتبة تضفي بعض اللمحات الساخرة التي أنعشت النسيج، وزادت من جاذبيته.

"حاولت أن أُبادله الابتسام بطريقة أداري بها توتري وجفاف فمي بعد أن نلت منه كل هذا الاهتمام. وتعمدت وأنا أخرج من الغرفة أن أتقصع بخصري بطريقة تعلمتها من أيولا. - أنت بخير؟ سمعته يسألني، ويدي على مقبض الباب، فالتفت إليه: - نعم؟ - طريقة مشيتك غريبة.- شد عضلي" (ص20).

الجمال في ثقافات الشعوب

يوشك جمال الأنثى أن يكون لعنة في ثقافات الشعوب على اختلافها، ليس على المرأة التي منحته، ولكن على من حولها من النساء. فيكفي المرأة أن تكون ذات وجه وجسد جميلين، حتى يغفر لها الرجل ما دون ذلك. ويخلق هذا السلوك الذكوري؛ غيرة تشتعل في قلوب بقية النساء، وحقداً يلتهمهن. وهذا ما جسدته الكاتبة، التي أدركت بطلتها "كوريدي" أن أختها "أيولا" تفوقها جمالاً من خلال سلوك الرجال، ومن سلوك أمها التي وجدت في جمال ابنتها الصغرى، عوضاً وعزاءً عن عدم إنجابها الذكور. فأولتها اهتماماً ومحبة أكبر. وكل ذلك دفع بالأخت الكبرى إلى جحيم صراع داخلي، بين مشاعر الحب والمسؤولية تجاه أختها الأصغر، وبين احتراقها وغيرتها وحقدها عليها، الذي أججه حصول "أيولا" على قلب "تيد". وهو الرجل الذي أحبته "كوريدي"، ما أورثها هزيمة قاسية وألماً مضاعفاً مبعثه شعور بالقبح وعدم استحقاق الحب. وقد برعت الكاتبة في نقل وتجسيد هذا الألم وتلك المشاعر المتناقضة وبثتها بكثافة وانسيابية عبر نسيجها الروائي.

انتهجت أويينكان نسقاً أفقياً للسرد، حيث تتدفق الأحداث منطقياً إلى الأمام. تخللته تقنيات التذكر والاسترجاع، إذ ارتدت عبر الصوت الذاتي للسرد إلى طفولة كل من الراوية وأختها، إمعاناً في تلوين النسيج بالصبغة النفسية، فرصدت بعض السلوكيات التي تنال من سواء النفس الإنسانية في طفولتها، داخل مؤسسة الأسرة. فالأب يعاقب طفلتيه بالضرب بالعصا فوق ظهره كل منهما العاري، ويمارس أصنافاً من العنف الجسدي إزاءهما. يجلب نساءه إلى منزله في وجود زوجته وطفلتيه. ويقبل استخدام ابنته القاصر للمتعة، مقابل إتمام صفقة تجارية. أما الأم فتقوم دائماً بتحويل اللوم، فتصنع بذلك خللاً نفسياً جديداً لدى الطفلتين، يتجسد في وساوس قهرية لدى الابنة الكبرى، تتجلى في اهتمامها المبالغ فيه بالنظافة، وفي تغطيتها على الجرائم التي ترتكبها أختها وإخفاء أثرها. ويتجسد كذلك في استهتار الابنة الصغرى وعدم تحملها المسؤولية... "هكذا هو الأمر دائماً، تكسر أيولا كوباً، فأتلقى أنا اللوم لأنني من ناولها كوب العصير، ترسب أيولا في مادة، فأتحمل اللوم لأنني لم أذاكر لها، تأخذ أيولا تفاحة وتغادر المحل دون أن تدفع، فأصبح أنا المُلامة لأنني تركتها تجوع" (ص106).

الواقع الاجتماعي

لم تغفل الكاتبة رصد سمات الواقع الاجتماعي المحيط بالجريمة، وما يئن تحت وطأته من مشكلات؛ منحت فرصاً أكبر للجاني للإفلات من العقاب. فأبرزت فساد الشرطة، وشراء الذمم، فضلاً عن التفاوت الطبقي، والمظهرية، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي في نشر تفاصيل الحياة الخاصة، واختفاء مفهوم الخصوصية الفردية، سعياً وراء "التريند"، وتفشي الخيانة الزوجية، واختلال قيم المجتمع، وهي سمات تتشاركها كثير من المجتمعات، لا سيما في الدول النامية، ما يدفع القارئ في كثير من هذه الدول، للشعور بواقعية الأحداث، وبخاصة أن الكاتبة قد عززتها بمزيد من تقنيات السرد، مثل تقنية الديالوغ المسرحي، التي أكدت الإيهام بالحدوث، في حين كان لجوؤها للحلم والمونولوغ الداخلي، وسيلة كاشفة، اتسقت مع رغبتها في تعرية دواخل النفس، وإبداء سوءاتها. وقد استطاعت من خلال شخصية "مختار" القابع في غيبوبته، أن تمنح الشخصية المحورية، فرصة أكبر في الكشف عما يعتمل في دواخلها، إذ يحرض الحوار مع شخصية صامتة يترصدها الموت، على مزيد من إفشاء الأسرار. فبدا حديث "كوريدي" إلى الجسد الممدد، كنوع من المونولوغ الداخلي، اتخذته الكاتبة بعد ذلك وسيلة لإضفاء المفاجأة، والمزيد من التشويق والغموض، باستنهاضها "مختار" من غيبوبته، وتغيير وجهته من الموت إلى الحياة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مزجت أويينكان بين بعض الأجناس الأدبية داخل البناء الروائي، فأدخلت الشعر الذي اختارته معبراً عن الشخصية والهوية الأفريقية. ولم يبدُ دخيلاً على السرد، وإنما تمكنت من توظيفه في خدمة الأحداث... "شمس أفريقيا قوية شابة/ تحرق ظهورنا/ فروة رؤوسنا/ عقولنا/ غضبنا لا سبب له/ إلا إذا كانت الشمس سبباً" (ص152).

تجاوزت الكاتبة سكونية السرد، فصنعت فجوات متعمدة في غير موضع من النسيج، ليملأها القارئ الذي يجد نفسه مشاركاً في فعل السرد، لا سيما حين لفت إحدى حوادث القتل بالغموض، وتضارب الروايات. ومررت فرضيات متقابلة يؤكد بعضها تورط "أيولا"، وينفي بعضها الآخر هذا التورط، تاركة القرار للقارئ في استكمال الحدث دون أن تفلت زمام التشويق ودون أن تضيع بوصلة السرد. وعلى الرغم من أن أحداث الرواية التي رشحت لثلاث جوائز أدبية كبرى أهمها البوكر العالمية، وشت بالطريق الذي سلكته الشخصية المحورية فيها، فإن الكاتبة حرصت في الوقت نفسه، على أن تضع نهاية مفتوحة، تمنح عبرها، طرفاً من خيط جديد، وتمهيداً لأحداث قادمة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة