إذا كانت أحداث ساحة تيان آن مين في بكين (الصين) قد ارتبطت بتاريخ الرابع من يونيو (حزيران) 1989، ذلك اليوم الذي أوصل "ثورة الطلاب" إلى ذروتها وإلى نهايتها أيضاً، بعد أن استفادت تلك "الثورة" من استرخاء السلطات بعض الشيء في الأيام السابقة، فإن اليوم السابق على ذلك التاريخ، أي يوم الثالث من الشهر نفسه شهد ذروة حدث آخر ارتبط بتلك الأيام العجيبة التي بقيت محفورة لسنوات طويلة في ذاكرة أجيال بكاملها من الصينيين. حدث قد يجوز لنا أن نعتبره حدثاً فنياً هو الذي سوف يسمى بـ"يوم تمثال الحرية" لكونه قد ارتبط، بشكل أو بآخر بواحد من أشهر الأعمال الفنية في العالم: تمثال الحرية الذي حققه النحات الفرنسي بارتولدي عند نهايات القرن التاسع عشر وقدمه هدية إلى الشعب الأميركي لينصب عند المدخل البحري لمدينة نيويورك فيكون بالتالي، وبما يرمز إليه، أول ما تطالعه عيون القادمين إلى الولايات المتحدة في زمن لم يكن من سبيل إلى القدوم إليها إلا ركوب السفن. ونعرف أن ذلك التمثال تحوّل ليصبح رمزاً عالمياً للحرية والإخاء بين الشعوب. ولكن السؤال هنا: ما العلاقة بين النصب النيويوركي و"ربيع بكين"؟ وهل كانت "التضحية به" نوعاً من الرمز؟ سنرى بعد سطور.
تمثال بين ضحايا القمع
إذن، الثالث من يونيو كان يوم "تمثال الحرية" في ساحة تيان آن مين أو بشكل أكثر تحديداً، اليوم الذي سقط فيه "تمثال الحرية" بين ضحايا القمع الذي وضع حداً لثورة الطلاب في ذلك البلد/ القارة. والتمثال المذكور، هو في الأصل نسخة (سيقول نقاد الفن مازحين إنها مشوهة، وما كان يمكنها إلا أن تكون كذلك على أية حال لأسباب ستتضح على الفور) من تمثال الحرية المشهور المقام كما قلنا عند مدخل نيويورك البحري. وكان طلاب الفنون الجميلة في بكين قد اشتغلوا على ارتجال تلك النسخة خلال أيام، جاعلين منها رمزاً استفزازياً وذا دلالة لثورتهم ضد السلطات وفي سبيل الديمقراطية والإصلاح السياسي. وكان الطلاب قد بدأوا تحركهم قبل أيام مستفيدين من زخم "البريسترويكا" (ثورة غورباتشوف وشفافيتها في موسكو) التي كانت تذر قرنيها في موسكو، ومن زخم الخطوات التمردية التي كانت تسود معظم بلدان العالم الاشتراكي في تلك السنوات الصاخبة.
... ووقع الطلاب في الفخ
لفترة من الزمن قبل ذلك كان قد خيّل إلى الطلاب والمثقفين الصينيين يتبعهم في ذلك عشرات الملايين من شبان ونساء غاضبين، أن ما يحدث في العالم الخارجي يمكن أن يحدث في بلدهم، فانتفضوا وراحوا يتظاهرون ويُضربون من دون أن يتراجعوا أو يبالوا، ويتحركون أمام كاميرات التلفزة الآتية من أنحاء العالم كافة لتصوير تلك الثورة المباغتة، التي راحت تبدو أكثر وأكثر شراسة وتصميماً. وكان الغريب في الأمر أن السلطات، تعمدت يومها، لحرج ما أو ربما كما سوف يتبين لاحقاً انتظاراً "ماكيافيلياً" للحظة مناسبة للانقضاض على الطلاب، أن تتركهم يفعلون وهي واثقة أنهم لا بد من أن يقعوا في فخ يوصلون فيه الاستفزاز إلى قمته ما يجعل من ضربهم درءاً لما هو أقسى من ذلك، في نظر بقية الصينيين في الأقل. ومن الواضح أن الثوار وقعوا في الفخ، إذ رأوا في استرخاء السلطات ما دفعهم إلى الإمعان في تحركهم، خصوصاً أن قضيتهم صارت على الصفحات الأولى في الصحف الغربية، وفي مقدمة نشرات الأنباء التلفزيونية ما جعلهم يشعرون أن حماية عالمية ما قد تأمنت لهم. ومن هنا جاءت فكرة "تمثال الحرية" الذي سيقال لاحقاً إنه كان "القشة التي قصمت ظهر البعير"، أي ذروة الاستفزاز الذي لم يعد في إمكان السلطات بعده أن تسكت.
طلاب الفنون نجوم
"ليلة التمثال، كان طلاب الفنون الجميلة هم النجوم الحقيقيين في المعمعة"، هذا ما كتبت الصحافة العالمية تقوله في ذلك اليوم. وقبل أيام كان الطلاب قد أعلنوا أن الدور صار دورهم ليعبروا عن رغبتهم في التحرر، موحين أنهم يحضرون "خبطة كبيرة". والحقيقة، كما قالت صحافة تلك الأيام، أن الناس جميعاً كانوا عارفين كنه تلك "الخبطة": كانوا يعرفون أن طلاب الفنون في طريقهم لأن يقيموا وسط ساحة تيان آن مين نسخة من تمثال الحرية النيويوركي مصنوعة من الجص. ففي نهاية الأمر كان متعارفاً عليه أن ذلك النصب المقدم هدية من "الشعب الفرنسي إلى الشعب الأميركي" وذلك بالتحديد، لتخليد "مساهمة الفرنسيين بقيادة لافاييت في الثورة الأميركية وانطلاقاً من اعتبار الولايات المتحدة والعالم الجديد عموماً ميداناً لأخلاقيات وسياسات أممية جديدة". ونعرف أن النصب قد تبوأ مكانه وفكرانيته حتى وإن كان سوء حظه قد جعله بين الحين والآخر يتحمل عن أميركا كلها شذرات من غضب كان موجهاً ضد السياسات الأميركية الرسمية. وفي هذا الإطار قد يكون من المناسب التذكير، على الصعيد العربي في الأقل، بتلك اللقطة السينمائية الشهيرة التي ختم بها المخرج يوسف شاهين فيلمه الشهير "إسكندرية ليه؟" عام 1978 وهي لقطة يصل فيها بطل فيلمه المسمى يحيى، وهو أناه الآخر على أية حال، إلى نيويورك على متن سفينة في طريقه إلى كاليفورنيا حيث سيدرس التمثيل المسرحي، وهو إذ ينظر إلى التمثال الشامخ مبتسماً متفائلاً، يطالعه التمثال بغمزة كريهة لا تعده بشيء مما كان يحلم به! وطبعاً نعرف أن السينما استخدمت التمثال استخدامات أخرى أقل شراً وإثارة للنفور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"عملاء الإمبريالية"
وكان الطلاب البكينيون على حق على أية حال في أن يلجأوا إلى التمثال وبشكل نظري طبعاً للتعبير عن توقهم إلى الحرية، معتمدين على الدلالة الأصلية التي توخاها صانعه الفرنسي من صنعه. ولقد اعتمد الطلاب في عملهم تقنية ذكية: صنعوا أجزاء التمثال المختلفة متفرقة في مشغل، كل قطعة على حدة، ثم حملوا القطع متفرقة إلى الساحة، من دون أن يجازفوا بلفت نظر السلطات التي كانت تترصدهم. ثم إذ وصلوا آتين من أماكن متفرقة إلى الساحة حتى راحوا يجمعون التمثال قطعة قطعة وسط تهليل الجماهير المحتشدة وصراخها. وعلى الرغم من أن التمثال الصيني لم يكن ارتفاعه ليزيد على أربعة أمتار، وعلى الرغم من أنه أتى مختلفاً كثيراً في ملامحه عن التمثال الأصلي، فإن الطلاب ومناصريهم اعتبروا توسطه ساحة تيان آن مين انتصاراً. وكان طريفاً ذلك الفنان الذي تحدث إلى صحافي أجنبي حول التمثال ودلالته قائلاً له: إننا نحن معشر الصينيين لا نعرف الحرية إلا من طريق الصور. ولكن في مقابل ذاك، بدا واضحاً أن السلطات كانت في انتظار مثل تلك الفرصة، لتنشر بسرعة ما يفيد بأن اللجوء إلى استخدام مجسد لذلك التمثال الأميركي يؤكد "تدخل أميركا في شؤون الصين الداخلية" و"تمويلها تحركات أعداء الوطن المشبوهة".
النهاية الحتمية
بالنسبة إلى أهل السلطة كانت "خبطة التمثال" ومن ناحية رسمية أكثر من أن تحتمل، لذلك راحوا يوجهون إلى الطلاب إنذاراً إثر إنذار، واستمر الشد والجذب بين الفريقين طوال أيام، فيما السابلة يتفرجون ومعظمهم يشعر أنه غير معني بالأمر، حتى كان يوم الثالث من يونيو، حين وجهت السلطات الإنذار الأخير، وحطم رجالها التمثال وسط غضب الطلاب ولكن أيضاً وسط تصفيق جماهير لم تدرك حقيقة ما يحدث وكان ما يهمها اعتقادها أن ثمة بالفعل عملاً معادياً للأميركيين! وفي تلك اللحظة لم يدرك الطلاب الذين كان الفرح وزهوة الانتصار قد أخذا منهم كل مأخذ، أن ذلك التحطيم لم يكن أكثر من إشارة إلى أن "اللعبة انتهت". إذ في اليوم التالي حركت السلطات قواتها المسلحة وهاجمت الساحة وراحت تعتقل الطلاب بالمئات وتفرق الباقين، منهية بذلك ربيع بكين الذي لن ينسى طلاب الفنون أبداً أنهم هم الذين صنعوا له رمزه، الرمز الذي استفز السلطات أكثر من أي شيء آخر وأفادها أكثر من أي شيء آخر: تمثال أبيض مشوه للحرية.