كانا اثنين من كبار مبدعي القرن العشرين وفي مجالين لا يبعدان عن بعضهما البعض كثيراً. فواحدهما كان سيداً كبيراً من سادة رسم الجداريات الضخمة، والثاني كان واحداً من كبار المهندسين المعماريين الذين عرفهم القرن العشرون. وكان ثمة إلى العديد من القواسم المشتركة الجامعة بينهما، قاسم أساسي هو كونهما معاً وكل في بلده، من معالم الحركة الشيوعية فيه، بل حتى مناضلاً فاعلاً تعرض لاضطهاد أيام الحكم الدكتاتوري في بلده وحظي بالقبول والازدهار في كل مرة كان الحكم في البلد تقدمياً يسارياً أو حتى ديمقراطياً يقدر الفن بصرف النظر عما إذا كان الفنان من مناصريه أو من مناوئيه سياسياً. ونتحدث هنا بالطبع عن البرازيلي أوسكار نيماير والمكسيكي دييغو ريفيرا.
بين ريفيرا ونيماير
نيماير كان المهندس المعماري أما ريفيرا فكان، بالطبع، ذلك الرسام الكبير الذي ملأ جدران بلده المكسيك، كما جدران بعض البلدان الأخرى تحفاً فنية لا تضاهى. وكانت حياته في حد ذاتها حكاية صاخبة تكاد تعادل فنه قوة وتحدياً، ولا سيما بالنسبة إلى ما يتعلق منها بغرامه بفريدا كاهلو وزواجهما وشكواها الدائمة منه مقابل خياناته المتواصلة لها. لكن هذه الشؤون العائلية الخاصة ليست ما يهمنا هنا. ما يهمنا هو المزاج المشاكس الذي ميّز ريفيرا عن نيماير على رغم وحدة الحال العقائدية بينهما. ففيما كان المكسيكي على استعداد دائم للمشاكسة حتى على الرأسماليين الأميركيين في عقر دارهم مستخدماً أموالهم محاولاً "خداعهم" نجد نيماير يدرك الحدود بين الفن والأيديولوجيا، بين النضال الحقيقي والخداع. وهكذا، مثلاً، حين ضيّع ريفيرا فرصاً أميركية عديدة حين استدعاه أثرياء من طينة روكفلر محاولين الإفادة من فنه ومهادنة جمهور يعاديهم أصلاً، تمكن من أن يفلت الفرصة من يده بمحاولته فرض وجود لصور مؤسسي الشيوعية ورموزها في لوحاتهم العملاقة، فكانت النتيجة أن غضب الرأسماليون وتوقفت المشاريع بل دُمّر بعض ما كان قد أُنجز منها.
ما لقيصر لقيصر
في المقابل عرف نيماير دائماً كيف "يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله" في منجزات عمرانية تبدّى في إنجازها نزيهاً مقدماً الجمال والتجديد على أي بعد آخر، ما جعله ينال ثقة الرأسماليين فينجز أعمالاً لهم خلدت إنجازاتهم وعززت مكانته. وحسبنا هنا أن نذكر مثلاً كيف أنه حين اتصل به كبير الناشرين الإيطاليين بل الأوروبيين موندادوري ذات عام مكلفاً إياه بإقامة صرح لنشاطاته في عالم نشر الكتب والمجلات غير بعيد من ميلانو، أسفرت النتيجة عن مبنى يعتبر اليوم واحداً من أجمل المباني المكرسة للإنتاج الثقافي في العالم، يدهش ببساطته وجماله كل من يشاهده فلا يتساءل أحد عن أين هي الماركسية في ذلك المبنى. بل أن مثل هذا التساؤل ومثل تلك الدهشة لا شك يبرزان حتى حين يشاهد المرء في ما يسمى بـ"ساحة الكولونيل فابيان" وسط واحدة من أكثر المناطق "حَماراً" – نسبة إلى لون الشيوعيين "الأحمر"- في شمال العاصمة الفرنسية، ذلك المبنى الهائل والمهيب الذي صممه ونفذه نيماير يوم كان مقيماً في فرنسا منفياً فيها، ليكون مقراً لقيادات الحزب الشيوعي الفرنسي يوم كان ذلك الحزب، عند أواسط سنوات الخمسين، يمثل ثلث الفرنسيين. فالحقيقة أننا هنا في إزاء مبنى يختلف كلياً عن تلك المباني القاتمة الكئيبة التي دائماً ما ارتبطت بالأيديولوجيات الشيوعية وتقشفها.
الفنان الحقيقي يستبق التغيير
والحال أن نيماير والحزب الشيوعي الفرنسي وربما مجمل الحركة الشيوعية العالمية كانت في ذلك الحين تشهد تغيرات جذرية تلت رحيل ستالين وسايرت الانفتاح على العالم. وكان من البديهي لفنان مثل نيماير أن يكون في فنه العمراني في صلب تلك التغيّرات. لكنها لم تكن جديدة عليه. ففي تلك الآونة بالذات كان المهندس البرازيلي الكبير قد كلف من قبل حكم ديقراطي منفتح في بلده بتشييد عاصمة جديدة للبرازيل سوف يطلَق عليها اسم برازيليا. وهي مدينة لا بد من القول إن إنجازها لم يكتمل حتى اليوم مع أن وضع الحجر الأساسي لها تم في عام 1957، بالتالي رحل نيماير في عام 2012 عن مئة وخمس سنوات وهو لا يزال يتطلع إلى يوم يجدها فيه مكتملة. لقد اشتغل نيماير على ذلك المشروع طوال أكثر من نصف قرن، ولكن ليس بشكل متواصل طبعاً. بل بالتقسيط وتبعاً للتتقلبات السياسية في بلده. وهكذا مثلاً، نراه يترك المشروع في أعوام تنفيذه الأولى، هارباً إلى المنفى في فرنسا، حين حلّت في الحكم دكتاتورية عسكرية ودموية لم يرحها اشتغال ذلك المناضل اليساري المعلن على تشييد عاصمة جديدة للبلاد، فحلّت غضبها عليه وعرقلت أعماله ما جعله ينتهز فرصة ملائمة للمغادرة.
تقسيط غير مريح
بعد ذلك، نعرف أنه كان يعود إلى الوطن مرة بعد مرة تبعاً لنوع السلطة الحاكمة فينجز جزءاً من المشروع أو عدة أبنية وساحات ومرافق تابعة له، قبل أن تتبدل السياسات من جديد، فيغادر مجدداً ولو لفترات قصيرة. ولعل حسن الحظ، أو التقدير الخفي الذي يكنه البرازيليون عموماً لفنه وتجديداته هو الذي كان يحول دون الحكام، ومهما كانت درجة ابتعادهم أو اقترابهم سياسياً منه، والاستعانة بغيره لاستئناف ما كان نفذه. وهكذا احتفظ المشروع كله بطابعه وارتبط بشخصيته جاعلاً منه المسؤول الأول، في تاريخ البشرية عن تشييد مدينة بأكملها. ومع ذلك سيحسب في التاريخ لهذا الفنان الكبير، أنه حرص دائماً على أن يضم إلى الفريق المحيط به من العاملين في شتى المهن العمرانية، تلاميذ له ومعاونين صاروا هم على تتابع الأجيال ومرور السنوات والعقود، كبار المعماريين وليس في البرازيل وحدها. وإضافة إلى ذلك يجب ألا يسهى عن بالنا هنا أن نيماير عرف طوال العقود التي نفذ فيها المشروع كيف يستعين بعدد كبير من الفنانين البرازيليين من رسامين ونحاتين ليعهد إليهم وتبعاً لتقديراتهم وتطلعاتهم بل حتى تنوع تياراتهم الفنية، بإنجاز عشرات المنحوتات والرسوم التي تشكل جزءاً لا يتجزأ الآن من طوبوغرافية هذه المدينة وزواياها ومرافقها العديدة التي يمكن القول إن كل واحدة منها تشكل اليوم وقد أُنجز الجزء الأكبر منها، مأثرة فنية عمرانية قائمة في ذاتها وإنما في تكامل مع المآثر الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صرخة أندريه مالرو
ويمكن التوقف دائماً هنا عند بعض أجزاء المدينة التي حرص نيماير منذ البداية على أن يحقق في كل منها تجديدات أدهشت العالم، من المبنى المسمى "سوبركوادرا 108 – جنوب" إلى "الكاتدرائية المتوبوليتانية" فـ"ساحة السلطات الثلاث" و"قصر المجلس الوطني" ومباني وزارات الخارجية والعدل والمحكمة الفيدرالية العليا. هذا من دون أن ننسى ذلك المبنى المستطيل الرائع المسمى "قصر الفجر" الذي احتاج الأمر إلى مشروعين متتاليين كي يكتمل كما شاءه نيماير، وذلك إسوة بالمشروعين الذين احتاجهما بدوره النصب الذي أقيم تخليداً للرئيس البرازيلي جوسيلينو كوبيتشيك الذي كان عهده ديمقراطياً وأطلق المشروع تحت رعايته وربما بمبادرة منه أيضاً ما حتّم أن يكون ثمة نصب تكريميّ له. وهنا في السياق التجديدي الذي أشرنا إليه قبل سطور وكان من ضمن إنجازات نيماير الكبرى في هذا المجال، لا بد من أن نذكر ما قاله المثقف الفرنسي الكبير أندريه مالرو الذي كان وزير الثقافة المفضل في معظم حكومات الرئيس شارل ديغول، ما إن وصل إلى "قصر الفجر" خلال زيارة تفقدية قام بها إلى برازيليا، وهو يتأمل بدهشة ممزوجة بإعجاب لا يحد إلى المبنى من الخارج: "يا إلهي، ها أنا أرى أمامي هنا أول تجديد يطرأ على بناء الأعمدة منذ العصور الإغريقية!". وسيقول نيماير لاحقاً إن ما من صرخة إعجاب عادلت بالنسبة إليه تلك الصرخة من مثقف كبير أمام إنجاز من إنجازاته.