إلى جانب كونهما قد عاشا متزامنين تقريباً وأنهما كانا معاً يعتبران من كبار الكتاب الفرنسيين في زمنهما، ناهيك بانتمائهما إلى الفكر الوجودي، ونالا في فترة متقاربة جائزة نوبل الأدبية (قبلها الأول فيما رفضها الثاني)، تشارك ألبير كامو وجان بول سارتر في أمور أخرى عديدة، قربت بينهما في بعض الأحيان وفرقت في أحيان أخرى، لعل أهمها أن الاثنين معاً كانا مفكرين أكثر منهما مبدعين في مجال الرواية والكتابة المسرحية خاصة. بمعنى أن كل واحد منهما استخدم مواهبه الإبداعية للتركيز على نفس الأفكار التي ملأ بها كتبه الفلسفية بحيث سيكون من الصعب لاحقاً النظر إلى رواياتهما ومسرحياتهما بوصفها أعمالاً أدبية كبيرة، بل بوصفها نصوصاً فكرية تعبر عن أفكار كل واحد منها. ومن هنا، مثلاً حين يدرج اسم واحد منهما في موسوعة فلسفية يصار إلى تحليل رواياته ومسرحياته كمبرر لذلك الأمر. ولعل هذا ينطبق على كامو أكثر مما ينطبق على سارتر. وربما يعود السبب هنا إلى أن سارتر عرف، على أي حال، كيف يرسم تقنيات فكره الفلسفي في نصوص كبرى، فلسفية خالصة، مثل "الوجود والعدم" و"تعالي الأنا" و"الوجودية فلسفة إنسانية"، فيما بقي كامو حريصاً على المزج الخلاق بين الرواية، والمسرحية، والتعبير الفلسفي.
فيلسوف جزائري
وهذا الأمر يمكن ملاحظته بقوة، مثلاً، في النبذة التي كرسها للحديث عنه ذلك المرجع الفلسفي الكبير المعنون "دليل أكسفورد في الفلسفة" والذي صدر، أخيراً، مترجماً إلى العربية ضمن منشورات "مشروع نقل المعارف" الصادر عن "هيئة البحرين للثقافة والآثار" في كتاب ربما يكون واحداً من أفضل الكتب الفلسفية الصادرة مترجمة إلى العربية في السنوات الأخيرة. هذه النبذة إذ تعرف أصلاً بكامو (1013 – 1960) بكونه "فيلسوفاً جزائرياً فرنسياً اشتهر بمفهومه في ’العبث’ الذي يصفه بنفسه بأنه حساسية غامرة في عصرنا، ويعرفه على أنه مواجهة بين استحقاقات اللامعقولية والعدالة وعالم لا مبال"، تنحو، بدلاً من التأكيد على ذلك من خلال نصوص لكامو تعتبر فلسفية خالصة، إلى التركيز على ثلاث من رواياته الأكثر شهرة: "الغريب" و"الطاعون" و"السقوط"، وهي لئن أضافت إلى هذه الروايات عملين يمزجان بين الفكر الفلسفي والبعد الأسطوري الحكائي هما "أسطورة سيزيف" و"المتمرد"، تخص الروايات بتحليل فلسفي إجمالي فحواه أنه لئن كنا نجد "أفضل نموذج لفكرة كامو عن "العبث" في كتابته لأسطورة "سيزيف" اليونانية، حيث حكمت الآلهة على سيزيف بأداء مهمة عميقة لا تنتهي تتمثل في رفع صخرة إلى قمة الجبل، يبدو سيزيف سعيداً بذلك، هو الذي يقبل قدره عديم الجدوى لكنه يتمرد في الوقت نفسه ساخراً من الحكم، "نجده في "الغريب" يقبل عبثية الحياة بكل بساطة ويفتح قلبه للامبالاة الحميدة، الماثلة لدى العالم".
الذنب في ذلك كله
في نهاية الأمر، يقول لنا هذا كله أن كامو، وكما الحال مع سارتر، يفصح عن تقدير عميق لفكرة "الذنب الأصلي، الكانن في وجودنا نفسه لمجرد انتمائنا إلى الكينونة البشرية". وهذا ما يقودنا إلى وجود شخصية منحرفة في رواية "السقوط"، شخصية المحامي السابق جان باتيست كلامنس الذي يجعل من الخلط بين الذنب والبراءة مبدأً فلسفياً، انطلاقاً من التساؤل الاستنكاري: كيف يتسنى للمرء أن يكون بريئاً في عالم عبثي؟ ولئن كنا نتوقف هنا عند هذه الرواية، أو القصة الطويلة بالأحرى، فذلك لأنها أتت لتلخص ليس فقط "الهم الروائي" لدى كامو، بل فكره الفلسفي كذلك. ناهيك بأن كثراً من قرائها ونقادها، مثل الأميركي ويليام ستايرون، ورومان غاري، ربطوا بين هذه الرواية والإحباطات التي كان كامو نفسه يعيشها في سنواته الأخيرة، (كما قال ستايرون)، وأوصلته إلى التفكير في الانتحار (بحسب ما أكد غاري)، ما قد يدفعنا إلى اعتبار السقوط واحداً من أكثر كتب كامو ذاتية.
نوع من وصية فكرية
كتب كامو هذا النص عام 1955، وفي نيته أن يجعله جزءاً من كتاب لم يكن قد أجازه بعد هو "المنفى والملكوت" الذي سينشره عام 1957 ليكون "آخر مؤلفاته "الأدبية". وهو كتب "السقوط" على شكل اعتراف متواصل يدلي به المحامي في حانة في أمستردام يلتقي فيها رجلاً آخر فيندفع في نوع من خطاب فلسفي ذاتي يتواصل على مدى صفحات الكتاب ويدور أساساً من حول فكرة الذنب، وذلك عبر ستة أقسام تتوزع عليها تفاصيل ذلك "الخطاب" الذي لن تحتوي الرواية على أي حديث غيره لشخص آخر، حيث إن المستمع لا يحير جواباً على أي من "اعترافات" جان باتيست الذي يحدثنا عن سقوطه وعن لا مبالاته إزاء ذلك السقوط، من دون أن يعطينا أي فرصة للإطلال على العالم "الخارجي".
المهم هنا
إن ما يهم كليمانس هنا، هو أن يروي تلك "الأحداث" التي أحدثت قلبة كبيرة في مجرى حياته هو الذي كان "قبل تلك الأحداث" وبحسب ما يصف بنفسه مجرد شخص أناني لا يعشق سوى ذاته. وذلك إلى درجة أنه ذات ليلة فيما كان يمر على جسر خال من المارة يسمع صراخ فتاة تستنجد بمن يمكنه إنقاذها، لكنه يستنكف ذلك تماشياً مع أنانيته. غير أن ذلك الاستنكاف سرعان ما يترك لديه شعوراً عميقاً بالذنب. وسرعان ما يتضخم ذلك الشعور لديه إلى درجة يضحى معها نوعاً من الهوس القاتل، نوعاً من مصباح قوي "ألقى الضوء كاشفاً على وجودي كله: ذلك الوجود الذي أدركت لحظتها كم أنه خاو لا فائدة ترجى منه، وجود لا تملأه سوى مزاعم لا معنى لها. لقد دفعني هذا الشعور إلى اعتزال العالم والعيش أسيراً داخل جدراني تتآكلني ضروب الندم والرعب".
كل الناس كذلك
من الواضح أن كامو إنما أراد عبر هذا الاعتراف الذي أعطاه طابعاً ذاتياً، أن يتحدث عن المحامي كليمانس كرمز ليس لذاته هو فقط، بل للإنسانية جمعاء. هذه الإنسانية التي رآها على ضوء فكرتي الذنب والندم، لا الذنب والمغفرة، كما كان من شأن كاتب متفائل، كالقديس أوغسطينوس مثلاً، أن يفعل: رآها أنانية مفرطة في توحدها، لا يمكنها أن تعيش إلا وسط ترفيه لا طائل من ورائه. بالنسبة إلى الكاتب، وبحسب ما يضعه على لسان محاميه الغارق الآن في ندمه، "فقد الإنسان المعاصر كما بات يبدو، أي إحساس بالعدالة والمسؤولية". ومن هنا جعل من هذا الاعتراف بالذنب على لسان جان باتيست كليمانس نوعاً من الترجمة العملية للقول المنسوب إلى سقراط وفحواه: إن أي حياة لا تفحص للذات فيها لا تستحق أن تعاش". وبالتالي من الواضح هنا أن كامو إنما يدعو إنسان اليوم إلى أن يواصل محاكمة نفسه بنفسه من دون أي تساهل أو تراخ، وبالتحديد عبر نوع قاس من الابتعاد عن الأنا، أو الامتناع عن المزج بين "الأنا الفاعل" و"الأنا الراصد"؛ وذلك بالتحديد لأن ذات المرء– أي "الأنا" الثانية- وحدها يمكنها أن تحكم بشكل شرعي وواع على الأنا الأولى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن المعضلة لا تحل
لكن كامو إذ يخلص إلى هذه النتيجة كحل لواحدة من أعقد المعضلات التي تواجه الكائن البشري الواعي، لا يفوته أن يختم نصه بما يعني استحالة وصول الإنسان إلى حل من هذا النوع. وذلك لأن تفحص الإنسان لذاته على ضوء وعيه بذنبه ربما يكون واحدة من أصعب المهام التي يمكن أن تناط بالإنسان مهما كان حجم وعيه وعظمة رغبته في الوصول إلى الخلاص. ففي نهاية الأمر مهما كانت صادقة رغباتنا في تحسين أنفسنا والحكم على ذاتنا، سوف نستخلص دائماً أن العالم كله مذنب. وبالتالي لن يقيض لأي إنسان الوصول إلى الخلاص والإفلات من ضميره ووعيه. وبالتالي إذا كان يمكن القول دائماً، إن كامو يتقاسم مع صديقه، ثم غريمه الفكري، سارتر تلك الوجودية التي دائماً ما ارتبطت بهما، فإن وجودية صاحب "السقوط" ستتبدى فاشلة في نهاية الأمر. ومن هنا نراه يعنون ذلك الكتاب– الوصية بـ"السقوط".