Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تفسّر الفلسفة الإيمان الدِّينيّ؟

اختبارٌ إنساني وجدانيٌّ مقترنٌ برحابة الكون اللامتناهي

لوحة للرسامة هيلين دو كلو (صفحة الرسامة على فيسبوك)

غالباً ما تخاطب الأديانُ الجماهيرَ والعامّة، فتستنهض همّة الجماعة، وتستثير المخيِّلة الانفعاليّة المشتركة التي تضمن للسلطان الدِّينيّ التأثير الفعليّ المباشر في وعي الأفراد المنصهرين في الجماعة المؤمنة. لا يعني هذا القول أنّ الدِّين مقتصرٌ على مبايعة الكتلة الصمّاء من الشعوب، وأنّ النخب المثقّفة لا تطيق اختبار الانتماء الدِّينيّ. جلُّ ما في الأمر أنّ الخطاب الدِّينيّ الرسميّ، والمؤسّسة الدِّينيّة المعتمدة، والذهنيّات العقائديّة التقليديّة، عناصرُ بالغةُ التأثير في الموقف الحذر الذي تقفه الأديان، على وجه العموم، من أهل الفكر الذين يبحثون عن اختبارٍ إيمانيٍّ شخصيٍّ ذاتيٍّ يصاحب مساءلاتهم الوجدانيّة الصادقة، ويراعي شكوكهم العقليّة المربكة، ويلبّي تطلّعاتهم الروحيّة التي قد يتجاوزون بها حدود العمارة العقائديّة الرسميّة.

ومن ثمّ، فإنّ فلاسفة الدِّين ما برحوا يحتضنون مثل الفكر الاستفساريّ التشكيكيّ هذا، فيجتهدون في تفسير الاختبار الإيمانيّ تفسيراً يلائم طبيعة القلق الوجدانيّ الناشب في أعماق الوعي الإنسانيّ. ينبري الفيلسوف واللاهوتيّ البروتستانتيّ الألمانيّ فريدريش شلايرماخِر (1768-1834) يتصدّى لمشكلة التشكيك الدِّينيّ الفكريّة، ويستنبط سبيلاً فلسفيّاً يتيح به للمثقّفين أن يستكشفوا معنى الإيمان في عمق مدلوله. تنوّعت اعتناءاتُ شلايرماخِر الفكريّة، فجال في ميادين اللغة وفقهها، واللاهوت وأصوله، والتفسير ومبادئه، والترجمة الفلسفيّة وآليّاتها. عاصر فلاسفة المثاليّة الألمانيّة من أمثال فيشتِه (1762-1814)، وهيغل (1770-1831)، وشِلينغ (1775-1854). ولكنّه كان قريباً من رومانسيّة الشاعر والناقد الأدبيّ الألمانيّ فريدريش شلِغِل (1772-1829).

من أبرز أعماله في فلسفة الدِّين كتابُه في تأصيل الدِّين ومقارعة الذين ينتقدونه انتقاداً علميّاً. أمّا ترجمته الفلسفيّة الشهيرة، فنقل بها إلى الألمانيّة جميع حوارات أفلاطون، منشئاً لكلّ حوارٍ مقدّمةً شرحيّة علميّة وافية. من بعد أن درس اللاهوت في جامعة هالِّه (Halle) الألمانيّة، عُيّن في العام 1810 عميدَ كلّيّة اللاهوت في جامعة برلين الحديثة النشأة. في موازاة ذلك كلّه، كان يبحث في أصول التفسير، مجتهداً في بناء نظريّةٍ فِساريّة (هِرمِنوطيقيّة) تضبط أحكام قراءة النصوص وقواعد شرح مبانيها واستخراج معانيها. بيد أنّ اجتهاداته الفِساريّة ظلّت في هيئة الشذرات والتعليقات والخواطر المتبعثرة، فلم يجمعها في مؤلَّف واحد. لذلك تكاثرت الطبعات التي حملت عنوان الفِسارة. فكان آخرها المجلّد الرابع من القسم الثاني الذي يضمّ محاضرات شلايرماخِر وكتاباته، وقد صدر في مجموعة الأعمال الكاملة النقديّة (Schleiermacher. Kritische Gesamtausgabe) التي تحقّقها تحقيقاً علميّاً وتنشرها أكادِميا العلوم في برلين وأكادِميا العلوم في غوتِّنغِن.

مقاربة الدِّين مقاربةً رومانسيّة

في العام 1821 صدر كتابُه الشهير "الإيمان المسيحيّ" يبيّن في مقدّمته، وقد عدّل فيها بعض التعديل العام 1830، أصولَ فلسفة الدِّين التي كان يعتمدها ويدرّسها في الجامعة. يتّفق أهلُ الاختصاص على القول بأنّ تضلّعه من الفلسفة واللاهوت أتاح له أن ينتهج سبيلاً فذّاً خلّاقاً من التفكير الفلسفيّ في ماهيّة الدِّين. في الفصل الثاني من كتابه "في الدِّين: أحاديث إلى مثقّفيه من بين مُنكريه" (Über die Religion. Reden an die Gebildeten unter ihren Verächtern)، يخاطب شلايرماخِر أهلَ العلم والفهم والبصيرة والإدراك والثقافة الذين ينتقدون المؤسّسة الدِّينيّة انتقاداً موضوعيّاً رصيناً، ويرفضون العمارة اللاهوتيّة النظريّة رفضاً مستنداً إلى أسباب وتسويغات فكريّة جديرة بالاهتمام. لذلك يتناول هذه الماهيّة تناولاً فلسفيّاً، فيعلن أنّ الاختبار الإيمانيّ يقوم على حدْسٍ أصليٍّ يجعل الذات الإنسانيّة تحسّ الموضوع الذي يستنهضها إحساساً وجدانيّاً يسبق كلَّ إدراك موضوعيّ خارجيّ. يشعر الإنسان بعظمة الكون، فيرتعش كيانُه ارتعاشاً مهيباً يجعله مستعدّاً لاختبارِ أعمقِ ضروب الإيمان الداخليّ.

ومن ثمّ، فإنّ شلايرماخر يتناول الدِّين تناولاً رومانسيّاً، إذ يعاين فيه اختباراً نابعاً من الحدْس الجوّانيّ والشعور الداخليّ، مخالفاً بذلك القائلين بأنّ الدِّين شأنٌ معرفيٌّ يستند إلى مبادئ التفكّر العقلانيّ، والقائلين بأنّه اختبارٌ حياتيٌّ وجوديٌّ تنبثق ضرورتُه من ضرورات الالتزام الكيانيّ الشخصيّ الذاتيّ العملانيّ البراغماتيّ. لذلك كانت أنسب المناهج التي تُظهر حقيقة الدِّين الأصليّة تقتضي منّا أن نتصوّره في جوهره حدْساً مباشراً يُشعرنا برحابة الكون وبوحدته. ذلك بأنّ كلّ دين ينبع من شعور الإنسان بالرحابة اللامحدودة التي ترتسم في أفق وجودنا المحدود، وبالمدى الأبديّ الذي يحتضن موقعنا النسبيّ في مطاوي الزمان.

الإيمان الوجدانيّ قبل الصوغ العقائديّ

أمّا المفاهيم الدِّينيّة والعقائد اللاهوتيّة، فإنّها تأتي في المرتبة الثانية، تُعبّر عن اختبارات الناس الثقافيّة في المجتمعات الإنسانيّة المختلفة. فالأديان تنطوي كلُّها على حدْسٍ أصليّ لمّاع يكشف لها رحابة الكون في مداه اللامتناهي. فتُفصح عن جوهر الدِّين إفصاحاً مرتبطاً باختبارات اللغة السائدة في مجتمعاتها الثقافيّة. لكلّ دينٍ من الأديان سياقُه التاريخيّ، وخلفيّتُه الثقافيّة، وقرائنُه الاجتماعيّة، وأنظومتُه العقائديّة. لذلك ينبغي التفطّن الأقصى في تفسير الأديان واستخراج جواهرها. في هذا السياق، يجرؤ شلايرماخِر على معارضة التعليم المسيحيّ الرسميّ والمباحثة في مسلّمات الإيمان التقليديّة المتواترة. فيعلن أنّ العقيدة ليست من وحي الله المباشر، بل من إنشاء العقل المؤمن المستنير بالحدْس الوجدانيّ الذي يختبر الله في أعماق الذات الإنسانيّة. ذلك بأنّ الشعور الإيمانيّ الدِّينيّ ليس مستودعاً من المعارف الماورائيّة، ولا متناً جامعاً من المبادئ والأحكام والقواعد الأخلاقيّة، بل وعيُ السموِّ الإلهيّ وعياً حدْسيّاً مباشراً يجعل المؤمنَ في حال التسليم المطلق للمشيئة الإلهيّة. ومن ثمّ، فإنّ شلايرماخِر، بانتسابه إلى المذهب البروتستانتيّ التقويّ، عزّز نشوء التيّار الصوفيّ الروحانيّ، ورسَّخ حركة اللاهوت الشعوريّ الذي يغوص على معاني الإيمان الجوّانيّ المنغرس في قاع النفس الإنسانيّة.

تجلّي الرحابة الإلهيّة في المدى الكونيّ الأوسع

لا عجب، بعد ذلك، من أن يُفضي الحدْس والشعور إلى استجلاء رحابة الكون التي تتحوّل إلى موضوع الإيمان ومضمونه وحقيقته وجوهره. ولكنّ الكون ينطوي في فلسفة شلايرماخِر على خصائص التصوّر الدِّينيّ الحلوليّ الذي يعاين الإلهيّات منغلّةً انغلالاً رقيقاً في ثنايا الكون الرحيب. لذلك يحمل مفهومُ الكون مجموعَ الكائنات في قوامها الثابت وصيرورتها المتحرّكة، وقد نهضت واستوت على أصلٍ إلهيٍّ أبديّ. فإذا بالكلّيّة الرحبة هذه تكشف للنفس المؤمنة سموَّ الواحد المتجلّي في الكلّ، بهاءَ اللامتناهي اللامحدود المنغلّ في المتناهي المحدود. أمّا الفصل الخامس من كتابه "في الدِّين"، فينقل التحليل من مستوى التأمّل في الجوهر الإلهيّ إلى مستوى المعاينة التاريخيّة، مُعلناً أنّ ماهيّة الدِّين لا بدّ لها من أن تتجلّى في الأديان التاريخيّة التي تجسّد هذه الماهيّة تجسيداً خاصّاً بكلّ اختبار ثقافيّ. في كلّ دين من هذه الأديان يبرز حدْسٌ جوهريٌّ يكشف عظمة الكون في موضعٍ من مواضع سموّ الألوهة المتجلّية فيه.

فإذا بهذا الدِّين أو ذاك يعزّز مقام الحدْس الهادي الناظم هذا، ويُخضع له جميع حقائقه وعقائده وتعاليمه. غير أنّ انبثاق الأشكال الجديدة من الدِّين إنّما يُنضج الوعيَ الإنسانيّ إنضاجاً يجعل تجلّي السموّ الإلهيّ في العمارة الدِّينيّة أشدَّ اقتراباً من الجوهر الإلهيّ السرمديّ. كلُّ دينٍ يكشف إذاً وجهاً من وجوه الحقّ الإلهيّ، وقد انتصب في مركز الكون يحمله ويضطلع به ويُخضع له كلَّ الكائنات. كلّما تطوّر الاختبارُ الإيمانيّ الجوّانيّ، اكتشف الإنسانُ عظمة السرّ الإلهيّ، فأدرك أنّه يختبر في دينه أسمى مراتب الأصالة الروحيّة والكشف الإلهيّ.

الارتباط بالمطلق الإلهيّ في صميم المحدوديّة التاريخيّة

بيد أنّ شلايرماخِر لا يستخرج من أطوار النضج الفكريّ مقاماً سنيّاً يستجمع قابليّات الاختبار الكيانيّ في أنظومةٍ معرفيّةٍ مطلقة. ذلك بأنّ الواحد المطلق الذي يحيي بحضوره في التاريخ مدراكَنا البشريّة ويحرّك أفعالَنا لا يبرح جوهراً عصيّاً على الإدراك. فالتناقض بين الطبيعة والروح لا يمكننا تجاوزه على الإطلاق. لذلك كانت الفيزياء والأخلاقيّات العلمَين الممكنَين في نطاق الوجود الإنسانيّ. تحلّل الفيزياءُ تركيبة الطبيعة، في حين أنّ الأخلاقيّات تتحرّى عن سبُل تحقّق الروح الرفيع في مسالك الإنسان التاريخيّة. أمّا الاستثناء الوحيد، فيكشف شلايرماخِر عنه في وحدة الوعي الوجدانيّ الذاتيّ المباشر حيث نستطيع أن نختبر الروح المطلق اختباراً فائق الوصف نعجز عن إدراكه معرفيّاً، إذ إنّه يتقدّم على كلّ معرفة وعلى كلّ فعل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استناداً إلى مبدأ الوعي الشعوريّ الحدْسيّ، يعتبر شلايرماخِر أنّ التديّن اختبارٌ ينشأ من إحساس الارتباط العضويّ بالمطلق. فالإنسان المجبول على المحدوديّة التاريخيّة يختبر في عمق وجدانه أنّه مرتبطٌ كيانيّاً وجوهريّاً ومصيريّاً بألوهةٍ متساميةٍ علويّةٍ مقتدرةٍ توحي له بالثقة والاطمئنان. أمّا الاصطلاح الذي تعتمده فلسفة الدِّين، فالتقوى (Frömmigkeit) التي تجعل الوعي أهدأ وأسكن وأرقّ.

ذلك بأنّ المطلق الإلهيّ لا يدركه الإنسان بواسطة المفهوم النظريّ، على نحو ما كانت تذهب إليه الفلسفة المثاليّة الألمانيّة (فيشتِه، شلِينغ، هيغل)، ولا بواسطة الحكم الواقعيّ والاستدلال البرهانيّ، على غرار ما تؤكّده الفلسفات العقلانيّة المؤمنة (أنسِلم، ابن رشد، توما الأكوينيّ). فالمعرفة الإنسانيّة تصطدم بحاجزَين يصعب تجاوزهما: العالم الخارجيّ والمطلق الإلهيّ. وكلاهما يكتنف الإنسانَ ويحتضنه برحابته العظمى. لذلك يستند الاختبار الدِّينيّ إلى الشعور الوجدانيّ برحابة الكون وأثره العميق في الوعي الذاتيّ الذي لا يملك إلّا أن يعترف بمحدوديّته وعجزه عن الإحاطة بسرّ الرحابة هذه.

ومن ثمّ، فإنّ الدِّين، بحسب شلايرماخِر، ينغرس انغراساً وجدانيّاً في أعماق النفس الإنسانيّة التي تطرب للبهاء الإلهيّ المتجلّي في صورة المطلق اللامتناهي الراغب في مداناة الإنسان وملاقاته على دروب الحياة. فإذا بالرغبة الإلهيّة يختبرها الوجدان في استبطان أحاسيس العمق الكيانيّ الذاتيّ، وفي استطلاع رحابة الكون، وفي فعل المحبّة الباذلة المضحّية الإخلائيّة. إذا استطاع الإنسان المؤمن أن يختبر طاقات الحبّ البذليّ في تضاعيف وجوده الشخصيّ، فإنّ شهادته الإيمانيّة تتزيّن بأبهى دلائل الصدقيّة الواعدة والتألّق المسلكيّ المضيء. وعليه، يأتي انتماؤه إلى الجماعة المؤمنة انتماءً واعياً، مستقلّاً، مستنهِضاً، يسائل على الدوام تصلّبات الصوغ العقائديّ، وانحرافات الهويّة المنغلقة، وعنفيّات التزمّت الأصوليّ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة