لم يكن القطاع الزراعي بعيداً كل البعد عما جرى في العراق خلال العقدين الماضيين، من تدهور في كل القطاعات، لا سيما بعد 2003، فبلاد الرافدين التي تتميز بوجود نهرين رئيسين هما دجلة والفرات يمران عبر غالبية المحافظات العراقية انطلاقاً من شماله إلى أقصى جنوبه ويلتقيان بمنطقة الكرمة القريبة من محافظة البصرة (جنوب البلاد)، كذلك يملك العراق العديد من الروافد التي تغذي المناطق الزراعية بالمياه، إلا أن السنوات الماضية شهدت كثيراً من المشاكل التي رافقت الزراعة والمزارع، من بينها قلة المياه التي تسببت في جفاف مناطق زراعية كانت تتميز بمنتجاتها، كذلك قلة الدعم المقدم للفلاحين واستيراد المنتجات الزراعية على حساب المنتج المحلي، والهجرة من الريف إلى المدينة، وهجرة الأراضي الزراعية وتحويلها إلى قطع سكنية أو تركها لتكون صحراء قاحلة.
الهجرة في مدن جنوب العراق
وكشفت دراسة أجرتها المنظمة الدولية للهجرة بدعم من وزارة الخارجية الأميركية، مكتب السكان واللاجئين والهجرة، حقائق عن الهجرة في مدن جنوب العراق، وذكرت الدراسة أن "التدهور البيئي على مدى السنوات الـ10 الماضية أدى إلى إلحاق أضرار بالغة بالقطاع الزراعي في العراق، وأدى تفاقم ندرة المياه ونوعيتها إلى عدم قدرة القطاع على توفير سبل العيش الكافية والمستدامة، لا سيما في المناطق الريفية حيث كان القطاع الزراعي لفترات طويلة مصدر العمل الرئيس للقوى العاملة"، وأضافت أن "ذلك أسهم بشكل مباشر في هجرة سكان الريف بحثاً عن فرص أخرى، غير أن المهاجرين بسبب المناخ يحاولون الاستقرار في بيئات جديدة ذات موارد مالية واجتماعية محدودة ومتشعبة ما قد يؤثر على قدرتهم في الحصول على الخدمات والحقوق".
وتابعت الدراسة، "في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) 2021، أجرت المنظمة الدولية للهجرة، ومنظمة البحث الاجتماعي دراسة استقصائية لـ802 من السكان المحليين والمهاجرين في مدينة البصرة الجنوبية لتحديد القضايا الرئيسة التي تعيق قدرة المهاجرين على الاندماج في البيئات الحضرية الهشة بالفعل بسبب المناخ، وتعاني مدن جنوب العراق بالفعل من الأمن الاقتصادي والحوكمة، وقد لا تكون مستعدة جيداً لاستيعاب تدفقات المهاجرين"، ووجدت الدراسة ذات الصلة بالهجرة إلى البيئات الهشة أن "الاستجابة لمظاهر التمدن غير الرسمية الناجمة عن تغير المناخ وعدم المساواة في البصرة، جعلت المهاجرين الذين يصلون البصرة يميلون إلى التجمع في الأحياء التي تعاني من مشاكل اجتماعية متعددة تتعلق بالأمن الاقتصادي والسلامة والحصول على الحقوق، وانتقال كثيرين منهم إلى أماكن الإيواء المعرضة للإخلاء والعمل ضمن وظائف منخفضة الأجر في القطاعات غير الرسمية".
ووفقاً للدراسة، أفاد أكثر من نصف الأسر المهاجرة بأنها "لا تستطيع تحمل تكاليف الغذاء أو المواد الأساسية وأن 53 في المئة منها لا تملك إمكانية للوصول إلى شبكة الأمان المالي"، ويميل المهاجرون أيضاً، بحسب الدراسة، إلى "الإبلاغ عن استبعادهم في الحصول على الخدمات العامة وغيرها من الحقوق التي قد تشمل العمل والتوظيف في الشرطة وتسوية النزاعات بشكل رسمي والضمانات المتعلقة بحقوق الملكية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكملت الدراسة أن "ذلك يتناقض مع وضع الأسر المحلية التي يعتمد معظمها على الوظائف الحكومية وتحسين قدرتها على تحمل التكاليف ووصولها إلى شبكات الأمان المالي، غير أن هشاشة القطاع الخاص المقترنة بتضاؤل قدرة الدولة على توسيع فرص التعيين في الوظائف العامة تحد من الآفاق الاقتصادية للمقيمين كافة وتزيد من خطر وقوعهم في براثن الفقر"، واستناداً إلى البيانات المستقاة من مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، فإن معظم المهاجرين هم في الأصل من المحافظات والأقضية المجاورة، وتفيد المؤشرات الرئيسة بأن التحركات ليست موسمية بل دائمة.
ندرة المياه
وأكدت الدراسة أيضاً أن "عواقب التحديات المناخية التي تواجهها البلاد، لا سيما تلك المتعلقة بندرة المياه، لها آثار بعيدة المدى وعاجلة، وتتطلب اتخاذ إجراءات منسقة لتخفيف الاحتياجات وتجنب مزيد من النزوح ومنع تفاقم المشاكل الاجتماعية القائمة".
وقالت مديرة قسم العودة والانتعاش كليمنتين فافيير، إن "التقرير يشير إلى ضرورة اتباع نهج ذي شقين لتعزيز قدرة المناطق التي تشهد تدفقاً سكانياً على التكيف، وفي الوقت نفسه تقديم الدعم إلى الأقضية الريفية التي تهاجر منها الأسر بسبب التدهور البيئي الشديد وانعدام الفرص الاقتصادية المتنوعة".
هوية العراق الاقتصادية زراعية
وأكد المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح أن الحضارة العراقية قامت وتأسست الدولة القديمة على أساس قدرتها المركزية في السيطرة وتنظيم المياه في حضارة وادي الرافدين على الرغم من تبدل أنماط الإنتاج بمرور الدهر، وقال إن "هوية العراق الاقتصادية زراعية في الأساس ومنذ نشأت الحضارة القديمة قبل سبعة آلاف عام في هذه البلاد"، ورأى صالح أن "المشكلة الأساسية تنبع من طبيعة البنية التحتية الزراعية، فهي طبيعة مركزية مملوكة للدولة بنسبة تتعدى 80 إلى 83 في المئة من تكوين رأس المال المادي الاجتماعي في قطاع الزراعة، وأقصد المبازل والسدود ومجاري الأنهار وتنظيم الري وغيرها، وإزاء ما تقدم، فإن النشاط الإنتاجي في القطاع الزراعي يتولى عملياته القطاع الخاص بنسبة 98 في المئة، وسياسة إدارة المياه، الهاجس الأول في استدامة الزراعة واستقرار الأرياف، وأقصد هنا السيطرة المركزية على تنظيم المياه والتوزيع العادل للحصص المائية".
واعتبر مستشار رئيس الوزراء العراقي أن "السهل الرسوبي العراقي يعد اليوم أحد أكبر الممالح في العالم، إذ يضاف إليه سنوياً أكثر من 30 مليون طن ملح، كما تقول الروايات الزراعية"، مشدداً في الوقت نفسه على ضرورة "تفعيل صناديق التسليف الزراعي التعاوني القصيرة الأجل على أن تكون الأفضلية في منح القروض الميسرة لمن يتولى ممارسة الزراعات المقتصدة للمياه العالية الإنتاجية باستخدام وسائل الري الأقل هدراً للمياه وأكثرها إنتاجية وتشغيلاً".
تقلص مساحات الأراضي المزروعة
وأكد صالح أن "البلاد بحاجة إلى أن يحمل المزارع بطاقة إلكترونية تمثل قاعدة معلومات تسهل حصوله على القرض الزراعي، وبلادنا في أمس الحاجة إلى هيئة رسمية تتولى تنفيذ أو تطبيق السياسات الزراعية عموماً والمائية خصوصاً بعد أن انحسرت الأراضي الصالحة للزراعة، فمن أصل 24 مليون دونم (24 مليون كيلومتر مربع)، لا يزرع اليوم سوى ستة إلى ثمانية ملايين دونم، وغالبيتها تزرع بفعل جاذبية الدعم الحكومي للحبوب".
خسائر اقتصادية
بدوره، قال الباحث الاقتصادي إيفان شاكر، إن "الهجرة إلى المدينة وأزمة المياه تركتا تداعيات سلبية من الناحيتين الاقتصادية والزراعية، ما يتسبب في خسائر تقدر بمليارات الدولارات، وتحديداً على القطاع الزراعي، وكذلك زيادة في نسبة البطالة الأمر الذي يترك تأثيره السلبي على الأمن الغذائي للعراق، كما سيلحق ضرراً بالثروة الحيوانية، لا سيما تربية الأسماك بسبب التصحر الحاصل تحديداً خلال هذه السنة".
وأشار شاكر إلى أن "تقليل حصة المياه من قبل الجارتين يقلص قدرة البلاد على تطوير القطاع الزراعي، والعراق يواجه خطر جفاف غير مسبوق هذه السنة بسبب قلة منسوب مياه الأنهر الواردة من إيران وتركيا بنسبة 50 في المئة، وفقدان العراق، لكل مليار متر مكعب من حصته من المياه، سيسبب تصحراً لـ260 ألف دونم من الأراضي الزراعية. وكذلك العراق مهدد بالتصحر بحلول عام 2040 لعدم إطلاق حصة مياه كافية من قبل إيران وتركيا".