أهمية الشرق الأوسط لا تقاس بالاهتمام الأميركي، وسط الحديث عن وصول واشنطن إلى قلة الاهتمام به. ولا هي تأتي من عودة روسيا إلى دورها فيه، وتطلّع الصين إلى دور كبير. فما يفرض أهمية المنطقة هو موقعها على الخريطة وما تفعله شعوبها ودولها في مسار التاريخ. وهي أصلاً أرض إمبراطوريات وحضارات وديانات سماوية قبل ولادة الكبار في العالم. وعلى مدى العصور، كانت محط أنظار الإمبراطوريات الأوروبية وصراعاتها. من الإمبراطورية الرومانية إلى آخر الإمبراطوريات التي انهارت في العقد الأخير من القرن الـ20، وهي الاتحاد السوفياتي. لكن الكل مشغول هذه الأيام بالسؤال عن الانسحاب العسكري الأميركي من المنطقة ومداه. وهو انسحاب بدأته واشنطن وتتخوف منه أطراف، وتطلبه أطراف أخرى من أجل أهداف مختلفة.
إيران تريد الانسحاب كاملاً وسريعاً من "غرب آسيا"، لا فقط من العراق وسوريا، وتتصرف على أساس أنها الرابحة التي ستصير صاحبة اليد الحرة في الخليج العربي وعلى شاطئ المتوسط. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حليف أميركا في "ناتو" يطالب بانسحابها من شرق الفرات في سوريا وكردستان العراق لكي يبطش بالقوى الكردية، التي يصفها بأنها "إرهابية" لأنها تطالب بحقوقها الوطنية والإنسانية. روسيا وسوريا تطالبان بانسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات لاستكمال سيطرة النظام على الأرض السورية، لكنهما في حاجة إلى صفقة مع واشنطن من أجل التسوية السياسية وإعادة الإعمار. دمشق تصف الوجود العسكري التركي في شمالها بأنه "احتلال" وتطلب الانسحاب، في حين أن موسكو التي حمت النظام متفاهمة ومتفقة مع أنقرة ودورها في سوريا. أما واشنطن، فإنها تريد التخفف من "حروب لا تنتهي". لكنها لا تستطيع الخروج الكامل من المنطقة ولا تريده. فمصالحها كبيرة فيها وهمومها التي كانت تتركز على مثلث "إسرائيل والنفط والشيوعية" لم تتبدل كثيراً بمقدار ما صارت لها أبعاد جديدة بعد "صعود الصين ويقظة روسيا" على حد تعبير وليام بيرنز، مدير الاستخبارات المركزية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمسألة ليست أن تكون أميركا أو لا تكون في الشرق الأوسط. المسألة هي أن يكون العالم العربي أو لا يكون في التنمية وبناء الدولة الوطنية كما في مواجهة الأطماع الإسرائيلية والإيرانية والتركية، والسؤال عمن يملأ الفراغ الأميركي لا يزال بلا جواب. فلا روسيا والصين هما البديل من أميركا. ولا أوروبا هي البديل. ولا القوى الإقليمية الثلاث إسرائيل وإيران وتركيا التي تلعب على المسرح العربي هي البديل. السؤال الذي يجب أن يأخذ مكانه في الاهتمامات هو: من يملأ الفراغ العربي؟ ومن يتولى قيادة العالم العربي في مرحلة اللايقين بالنسبة إلى استراتيجيات الكبار والتوجه الإقليمي نحو صراعات خطيرة؟
أميركا انسحبت من أفغانستان باتفاق مع "طالبان" بعد 20 عاماً من إسقاطها واحتلال البلد. والمشهد في الشرق الأوسط الذي تنسحب منه أميركا على مراحل ليس واحداً. سوريا واليمن وليبيا في حروب أهلية تديرها قوى إقليمية ودولية. العراق يحاول استعادة التوازن في العلاقات مع إيران وأميركا والمحيط العربي. لبنان في أزمة وجود. دول المغرب العربي مشغولة بهمومها الخاصة، ومتأثرة بالخلاف الحاد بين المغرب والجزائر. السودان في تجربة انتقال ديمقراطي مهددة بالتراجع. والطريق الوحيد المفتوح أمام الدور الذي يبحث عن أبطال هو الطريق إلى مصر والسعودية والإمارات. ومن هنا تبدأ قيادة العالم العربي التي قامت في الماضي على الثلاثي: مصر، سوريا والسعودية. ففي المنطقة تحركات حوارية بين تركيا ومصر كما بين الرياض وطهران لم تكتمل بعد، واستعدادات للمواجهة في الوقت ذاته. أسوأ سيناريو هو الذي اقترحه الرئيس باراك أوباما حين أراد التوصل الى الاتفاق النووي مع إيران بأي ثمن: تقاسم النفوذ في العالم العربي بين السعودية وإيران. ولا أحد يعرف إن كان الرئيس جو بايدن سيقترح ما هو أسوأ أو أقل سوءاً. لكن العرب محكومون بتحقيق السيناريو الأفضل: بناء الدول الوطنية التي تملأ كل فراغ وتواجه تحديات الأطماع الإقليمية في مد النفوذ إلى أعمق مكان في العالم العربي.