يبدو أن حقبة التوافق والمحاصصة في العراق لا تزال تسيطر على الأجواء السياسية بعد انتهاء الانتخابات المبكرة. وعلى الرغم من حصول التيار الصدري على غالبية برلمانية تمكنه من عقد تحالفات مريحة، فإن التصعيد الذي يحيط بمشهد التحالفات يعطي انطباعاً بأن طريق تشكيل الحكومة المقبلة لم يحسم بعد.
وعلى الرغم من الحديث عن "حكومة صدرية"، فإن الأجواء السياسية في البلاد لا تسير في سياق ترجمتها على الأرض حتى الآن.
ويستخدم التيار الولائي (عبارة تستخدم لوصف التيارات السياسية الموالية لإيران) العديد من وسائل الضغط على مقتدى الصدر في سياق العودة إلى سيناريو تحالفي "الفتح - سائرون"، الذي تمخض عنه تشكيل حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي بعد انتخابات 2018، وكبح محاولات الصدر الانفراد ضمن الأجواء الشيعية وتشكيل الحكومة المقبلة وفق مقاساته.
أرقام "خيالية"
وعلى الرغم من استخدام "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية"، الذي تمثل غالبية القوى الموالية لإيران دعاوى التزوير ورفض نتائج الانتخابات والتلويح بالتصعيد، فإنها تقود حراكاً محموماً للحصول على أكبر قدر من التحالفات داخل الأجواء الشيعية.
وتتحدث قيادات الإطار التنسيقي عن أنها حصلت على أكثر من 90 نائباً ضمن تحالفاتها داخل المكون الشيعي، إلا أن تلك الأرقام لا تبدو دقيقة للمراقبين، حيث إن تحالف "الفتح" الذي يمثل غالبية القوى المسلحة، وائتلاف "دولة القانون" الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق والمقرب من طهران نوري المالكي، بما في ذلك تحالف "تصميم" بزعامة محافظ البصرة أسعد العيداني والقوى الأخرى الداخلة ضمن الأجواء الإيرانية، لا تتعدى حدود الـ70 نائباً حتى الآن.
وتفيد التسريبات بأن العديد من الأطراف داخل تلك الأجواء لم تحسم موقفها بعد، حيث لم يظهر تحالف "تصميم" أي حماس إزاء ما يجري ضمن الأجواء الولائية، ولم يرسل أي إشارة للانخراط ضمن هذا التحالف، فضلاً عن أن اسمه لم يقترن في السابق بالإطار التنسيقي للكتل الشيعية.
وحتى اللحظة، يبدو الحديث عن 60 نائباً لكتلتي "الفتح" وائتلاف "دولة القانون" مبالغاً به، أما الحديث عن 90 نائباً للإطار التنسيقي فيكاد يكون "خيالياً"، بحسب متابعين.
ويرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الياسري أن القراءة السريعة للأرقام التي تمخض عنها مشهد الانتخابات العراقية تؤكد أن ما تتحدث عنه الجبهات الموالية لإيران "غير دقيق"، مشيراً إلى أنها "لن تتمكن من الحصول على 90 مقعداً مع الصعود الكبير لتيارات الانتفاضة في الأجواء الشيعية".
ويوضح الياسري، لـ"اندبندنت عربية" أن عدد المقاعد الشيعية في البرلمان تتراوح بين 170 و180 مقعداً، ما يجعل الحصول على نصفها من قبل التيارات الولائية "أمراً مستحيلاً".
الخطة "ب"
ولعل إدراك التيارات الولائية أن معادلة الأرقام لا تصب في صالحها هذه المرة، جعلها تلجأ في الوقت ذاته إلى الخطة "ب"، التي تتواتر إعلامياً من خلال تصريحات قياداتها، الملوحة بالتصعيد والتحذير من الحرب الأهلية والاقتتال الشيعي - الشيعي.
ويبدو أن استخدام سيناريو التصعيد نجح حتى الآن في كبح جماح الصدر، الذي أظهر سلسلة تراجعات عن العديد من مواقفه السابقة، من بينها سلسلة تغريدات تضمنت الحديث عن حكومة "لا شرقية ولا غربية"، بدلاً عن الحديث عن "حكومة صدرية"، إضافة إلى تغريدته التي يقول فيها "ليس من المهم من يكون الفائز في هذه الانتخابات".
ويعطي التراجع عن تصريحات القيادي في التيار الصدري نصار الربيعي، التي تحدث فيها عن أن "الكتلة الصدرية ستكون الأكبر، ورئيس الوزراء سيكون صدرياً"، انطباعاً عن حجم الضغوط التي يخضع لها التيار، حيث أصدرت هيئته السياسية بياناً نفت فيه تصريحات الربيعي.
وعلى الرغم من الحديث عن تراجع التيار الصدري في المرحلة الحالية، فإن مراقبين يرون أنها ربما تمثل "محاولة امتصاص غضب الميليشيات لتخفيف الاحتقان"، وانتظار المصادقة على نتائج الانتخابات، ثم العودة مرة أخرى إلى معادلة الأرقام.
وسبق أن انتهج الصدر هذا السيناريو، خصوصاً عند تعرضه لهجمة كبيرة بعد حرائق المستشفيات وتحميل تياره مسؤوليتها باعتبار أن وزارة الصحة كانت من حصته، إلا أنه تدارك هذا الضغط من خلال إعلان انسحابه من السباق الانتخابي، من ثم العودة مرة أخرى وحصده 73 نائباً.
ويلفت الياسري إلى أن الأرقام الانتخابية تعطي انطباعاً بأن طهران "ستدفع باتجاه زيادة منسوب التصعيد للعودة إلى التوافقات السائدة منذ عام 2003".
توافق على مقاسات الصدر
ولا يزال سيناريو انتخابات عام 2018 حاضراً في أذهان العراقيين، إلا أن مراقبين يرون أن عودة حكومة "سائرون - الفتح"، لم تعد خياراً متاحاً، خصوصاً بعد الفارق الكبير بين كتلة الصدر والتيارات الموالية لإيران.
وعلى الرغم من الرؤى المتباينة للمراقبين فيما يتعلق بإمكانية ثبات الصدر أو تراجعه مقابل الضغوط الولائية، يبدو أن الدفع باتجاه التوافق من جديد، ربما يوفر للتيار الصدري مبرراً أمام جماهيره للتنازل عن رئاسة الوزراء وإبعاده عن تحمل مسؤولية الحكومة المقبلة، مقابل فرض شروطه عليها والاستحواذ على أكبر عدد ممكن من المفاصل فيها.
ويقول الياسري، إن هذا السيناريو ربما يمثل حجر الزاوية بالنسبة إلى تحركات الصدر الأخيرة، التي ستمكنه من إملاء شروطه على الحكومة المقبلة، فضلاً عن ملئها بـ"أجنحة صدرية".
غالبية مستحيلة
ولطالما ترددت عبارة "الغالبية السياسية" بعد كل انتخابات، إلا أنها لم تطبق خلال تشكيل كل الحكومات السابقة، إذ سيطرت أجواء التوافق والمحاصصة الحزبية والطائفية على كل حكومات ما بعد الغزو الأميركي.
وتبدو الغالبية أمراً غاية في الصعوبة بالنسبة إلى غالبية الأطراف، وتعتمد هذه المرة على موقف الكتل السنية والكردية في حسم اتجاهاتها مبكراً، لكن إذا قرروا البقاء متفرجين وانتظار ما سينتجه المشهد الشيعي ستكون الغالبية مستحيلة. أما إذا قررت تلك الأطراف الانخراط مبكراً في تغليب طرف على الآخر، فربما سيشهد العراق عصر الغالبية السياسية للمرة الأولى بعد عام 2003.
وحتى اللحظة، لا يبدو أن الكتلتين الرئيستين في الأجواء السنية والكردية، تحالف "تقدم" وكتلة "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، تريدان تغيير ملامح اللعبة السائدة منذ الانتخابات الأولى عام 2005، وهو ما يعقد إمكانية اختراق معادلة التوافق وقوة سلاح الميليشيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن ما جرى في الانتخابات الحالية يمثل ضربات متلاحقة لحلفاء طهران، ليس في حدود المكون الشيعي فحسب، بل في المكونين الكردي والسني أيضاً.
ويقول أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي، إن حجر الزاوية في حسم مسألة التوافقات والوصول للمرة الأولى إلى مشهد "الغالبية السياسية" لا يزال مرهوناً بموقف تحالفي "تقدم" والحزب الديمقراطي الكردستاني.
ويلفت إلى أن ما يجري من محاولات تصعيد تثيرها الجماعات الموالية لإيران، يمثل "رسائل مبطنة إلى الصدر لإرغامه على التنازل عن حكومة غالبية تعزل حلفاء إيران عن المشهد".
ويرجح الهيتي عدم ميل الحزب الديمقراطي الكردستاني للتحالف مع القوى الموالية لإيران، "خصوصاً بعد الاستهدافات المتكررة لمحافظة أربيل، التي غيرت بوصلة اتجاهاته السياسية".
ويتابع أن تحالف "تقدم"، الذي يتزعمه رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، "يتخوف من إعلان ميله للتيار الصدري خوفاً من قيام قوى الحشد الشعبي بابتزازه فيما يتعلق بأمن محافظة الأنبار، فضلاً عن محاولته الحفاظ على منصبه كرئيس للبرلمان لدورة ثانية".
ويعتقد الهيتي أن "المناخ السياسي والاجتماعي في الداخل العراقي والواقع الدولي والإقليمي الجديد يحولان دون ذلك".
ويختم بأن "أجواء التوافق لا تزال حاضرة في المشهد العراقي، وهو ما يعقد حسم ملف الحكومة المقبلة".