لعل إحدى أهم سمات الفكر العربي المعاصر تعامله الإشكالي مع الثقافة، فهل هي العامل المركزي والحاسم في السياسة والاجتماع والنهضة، أم هي نتيجة عوامل مادية أو اقتصادية أو تاريخية؟ وهل ثمة أمم وشعوب قابلة للحداثة والتطور والارتقاء وأخرى محكومة بالتخلف والتقهقر الحضاري؟ وهل التغيير الحضاري يجري بموجب حتميات طبيعية أو اقتصادية أو تاريخية، أم إنه شأن إنساني محض تغلّبه الإرادة الإنسانية على ما عداها من حتميات؟
في هذا السياق الإشكالي ثمة من رد الظواهر الاجتماعية والسياسية والتاريخية إلى علل ثقافية، دينية أو فطرية أو نفسية، على أساسها جرى ترسيخ أزعومة تفوق أوروبا حضارياً واستعدادها للتمدن، وفرادة نموذجها الحداثي وتميزه، على الضد من بقية الأمم، المحكوم تاريخها بالقصور والتخلف والإستبداد. في السياق ذاته، جاءت أطروحات الفلاسفة الغربيين العنصرية، فقال مونتسكيو بملاءمة الاستبداد للشرق، وقال رينان بعداء العرب والمسلمين للعلم، وميّز نيتشه بين ثقافة أقوياء أو سادة وثقافة منحطين أو عبيد، وحصر دارون قابلية التقدم بأعراق دون سواها، وطرح فوكوياما وهنتنغتون مقولة صراع الحضارات ونهاية التاريخ.
عومل ثقافية
من هذا المنظور تقدم الأمم والشعوب أو انحطاطها رهن بعوامل ثقافية في مقدمها العامل الديني. ومن هذا المنطلق بالذات أسس حراك التاريخ على خلفية دينية، فرد صعود الرأسمالية وانتصارها إلى الأخلاق البروتستانتية، واعتبر الإصلاح الديني عودة إلى المسيحية، والنظام الديمقراطي عودة إلى الديمقراطية الأثينية، أما التسامح والإنسانوية والعلمانية فأفكار تنهل من المسيحية وتستعيد تعاليمها.
هذا المنطق الثقافوي لم يكن غريباً عن فكرنا العربي المعاصر الذي تميز عموماً بمنحيين أيديولوجيين رئيسين، أعطى أحدهما الأولوية للعوامل المادية والاقتصادية على ما درج عليه الماركسيون العرب، فيما قدم الآخر العوامل الثقافية مفسراً بها وحدها الظواهر السياسية والاجتماعية كافة، وفقاً لخطاب النقد الثقافي الذي طرح جملة من الأفكار والرؤى والمواقف والتصورات التي اخترقت غير مدونة عربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، وما زالت تتردد على مدى العقدين الأولين من هذا القرن ،مؤكدة أهمية استئناف هذا الخطاب، لأن استراتيجيته لم تستثمر بعد في مجال الحراك الحضاري الهادف إلى تجاوز الحال العامة التي يعيشها المجتمع العربي.
في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967، وضعت المسألة الثقافية في صدارة العوامل الفاعلة في التاريخ، فرأى محمد عابد الجابري أنها "بمعناها الواسع هي اليوم المحرك للتاريخ المعاصر الراهن "وذهب هاشم صالح إلى أن التحرير الروحي هو الأول والمسبق لكل تحرير اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي.
النقد الثقافي
منتهجاً خط المقاربة الثقافية لانتكاس مشروع النهضة العربية، كتب عبدالله العروي رائد ومؤسس خطاب النقد الثقافي، "الأيديولوجية العربية المعاصرة" وكتب ياسين الحافظ "الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة"، وغالي شكري "ديكتاتورية التخلَف العربي"، ومحمد عابد الجابري "نقد العقل العربي"، ومحمد أركون "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي"، وقضايا في نقد العقل الديني، "وأدونيس" الثابت والمتحول "ومن بعد هؤلاء جاءت مؤلفات جورج قرم "انفجار الشرق الأوسط " وهشام شرابي "البنية البطريركية، بحث في المجتمع العربي المعاصر "وخلدون حسن النقيب" آراء في فقه التخلَف". وقد توجَه هؤلاء وآخرون إلى نقد البنية الثقافية العربية، باعتبارها الأساس الفعلي للمحنة الحضارية، ففي الأيديولوجيا يجب البحث عن أسباب التخلف والهزيمة، وفيها وبها نجد الإجابة عن السؤال النهضوي المزمن "لماذا تأخر العرب وتقدم الأخرون؟"، إذ ثمة عوامل ثقافية كامنة في العقل العربي ونمط تصوراته في شأن الإنسان والتاريخ تقف وراء هزيمتنا المتمادية. وما لم تواجه بثورة ثقافية، لا يمكن أن تنهض الحياة العربية أو أن يتحول الإنسان العربي إلى الإبداع. فمن نقد العقل العربي بلغة الجابري وأركون وأدونيس أو تحرير الروح العربية بلغة هاشم صالح، أو نقد الأيديولوجيا السائدة بلغة الحافظ، يبدأ التحول العربي باتجاه مجتمع الحداثة.
من هنا كان ثمة اتفاق في الخطاب الثقافي على حتمية تغيير الأبنية الثقافية العربية كمقدمة لأي تغيير في الواقع العربي. ومن هذا المنطلق بالذات اتجه الاهتمام إلى المثقف العربي في عملية التغيير، وأسندت إليه مسؤليات ومهمات كبرى، ليس أقلها الاضطلاع بالتوحيد القومي للأمة العربية وتنمية مجتمعاتها، ومواجهة التحدي الصهيوني والدفاع عن قضايا التنوير والنهضة، وردالغزو الثقافي وصون الهوية والقيم الحضارية العربية.
إلا أن التأويل الثقافي لا يغيب التأويلات الأخرى في فكرنا العربي، الاقتصادية والسياسية والمادية. فقد طرح الماركسيون العرب الاقتصاد شرطاً للوحدة العربية، ومن منظور سياسي للمعرفة. اعتبر العقل متورطاً في خدمة الأهداف السياسية، ونظر إلى التفكير والمذاهب الفلسفية والعقائد والأخلاق والوعي الديني باعتبارها ذات مضمون سياسي. فمشكلتنا وفق رشيد الحاج صالح مشكلة سياسية لأن النظام السياسي هو الذي يشكل الوعي الديني والأخلاق والتربية.
الواقع الإجتماعي
كذلك يجادل سمير أمين في صحة الطرح الثقافي انطلاقاً من المادية التاريخية، معلياً العوامل المادية والتاريخية على العوامل الثقافية والروحية، من دون أن يتجاهل أثرها في الواقع الإجتماعي، فالإصلاح الديني والتقدم والحداثة والعلمانية لا تفسَر، في رأيه بالدين والميتافيزيقيا، بل هي نتاج حركة الحداثة التي فرضت إعادة تأويل الدين، انطلاقاً من أن الكائنات الإنسانية هي التي تصنع تاريخها، ومن أن العوامل المادية هي التي تفسر التاريخ بما هي العوامل المحددة. عليه، كانت إعادة التأويلات الدينية في رأي أمين "نتاج مقتضيات التحول الاجتماعي لا سبباً له".
لايتفرد أمين في دحض الطرح الثقافوي، فمحمد عابد الجابري الذي قال في الثقافة، إنها محرك للتاريخ المعاصر الراهن، عاد ليؤكد، إلى جانب دور العامل الأيديولوجي "العقيدة" في الاجتماع العربي الإسلامي، دور العامل الاجتماعي "القبيلة" ثم العامل الاقتصادي "الغنيمة "لينتهي إلى أن العقيدة مثل القبيلة، مثل المصلحة الاقتصادية، معطيات متداخلة يصعب التمييزفيها بين ما هو قاعدة وما هو انعكاس لها، على عكس التفسيرات الماركسوية المتداولة بصدد البنية التحتية المادية والبنية الفوقية الروحية.
كما أن الوثوقية التي ميزت المرحلة المنصرمة إزاء الثقافة والمثقف ودورهما الطليعي في التغيير، هما الآن موضع نقد ومراجعة، بل شك ومساءلة، ليس بالنسبة إلى الجماهير التي لم تحصد ما توخته من المراهنة على الثقافة والمثقفين، وإنما بالنسبة إلى المثقف نفسه الذي راح يتحدث عن إحباطه وأزمته، حتى أن تنويريي القرن التاسع عشر وليبراليي بدايات القرن العشرين وقوميي منتصفه، كانوا أكثر تفاؤلاً ووثوقاً مما هم عليه في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن. فهذا قسطنطين زريق القومي العربي يذهب في آخر أيامه إلى حد الشك في صحة التكلم عن الأمة العربية، بل عن مجتمعات قطرية عربية، وهذ ا محمد أركون الذي بدا واثقاً بزحزحة الأنظمة المعرفية الموروثة، يفاجأ قبيل رحيله بـ "العقل الأصولي المدهش في استمراريته"، وهذا المفكر الماركسي يصحو على خيباته، متبرئاً من ماضيه، متنصلاً من جانب من أدلوجاته أو منها كلها.
مأزق كبير
لثقافة والمثقفون في مأزق كبير إذاً، مأزق عبر عنه محمود أمين العالم بقوله "لانستطيع القول إن هناك جبهة ثقافية نقدية ونظرية إبداعية ذات سلطة فاعلة ومؤثرة في مواجهة سلطة ثقافة السلطة العربية السائدة"، كما عبر عنه فيصل دراج باعترافه أن ثمة "اغتراباً حقيقياً همش المثقف النقدي تهميشاً يتاخم المأساة.
إن أساس هذا المأزق، في راينا، هو أن المثقف ينازع بخطابه الثقافي النقدي السلطات السياسية والأيديولوجية القائمة في المجتمع، متوسلاً وسائط الاتصال وأشكالها من أجل ممارسة سلطته الفكرية والأيديولوجية. بتعبير آخر، إنه يريد أن يكون فاعلاً في مجتمعه من خلال ثقافته وفكره، بيد أن ذلك لا يستقيم إلا في فضاء حداثي استقرت فيه قيم الفردية واستقلالية الفرد ومرجعيته، والرأي العام وسلطته المتعالية على أية سلطة مستبدة خارجة عنه، إذ ثمة تلازم بين ولادة المثقف كفاعل اجتماعي، وبين
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المجتمع المدني الديمقراطي الضامن للمساواة المدنية، وحق التعبير والرفض والنقد والمساءلة من دون عسف أوتحريم. لكن المثقف العربي ينظر حوله فلا يرى جمهوراً يعضده ولا شرعية ديمقراطية يتكىءعليها، فأكثر من نصف العرب من الأطفال والأميين والفقراء، وهؤلاء لايصلهم من خطابات المثقفين إلا ما تريده لهم السلطة السياسية، في ظل ضآلة المنشورات الثقافية ومحدوديتها، واستبداد المرجعيات الذي يصل إلى حد الاغتيال المعنوي أو حتى الجسدي. وفي حال وجود مؤسسات ديمقراطية، من حيث الشكل، إلا أنها في الواقع "محاصرة أو مراقبة أو محدودة أو معرضة دائماً للمصادرة والقمع" على حد تعبير محمود أمين العالم.
كيف يمكن في ظل مثل هذه الظروف أن يكون للمثقف سلطة فاعلة، وهل يكون غريباً الحديث عن الإحباط الثقافي وأزمة المثقفين؟ فإذا كان دريفوس قد وجد رأياً عاماً يسنده، وقوانين ديمقراطية تنصره، فإن المثقف العربي يجد نفسه وحيداً، متروكاً لقدره، وقهر أنظمته، واستبداد مرجعياته، وبؤس عامته.