مثلما غيرت منصات العرض الرقمي عادات المشاهدة جذرياً هي أيضاً بدلت قواعد لعبة الإنتاج الدرامي بالأساس، فكل من لديه خط إنترنت بات يفضل أن يتابع أعماله المفضلة وقتما يحب عبر أي تطبيق، فأصبحت مشاهدة قنوات التلفزيون موسمية ترتبط في عالمنا العربي عادة بشهر رمضان، إذ يعتبر الأمر هنا طقساً اجتماعياً بالأساس، بينما النمط السائد للمتابعة أصبح مرتبطاً بشكل وثيق بالمنصات الإلكترونية التي تتيح المشاهدة في أي وقت ومن دون فواصل إعلانية وأيضاً تحمل زخماً وثراءً في الموضوعات المطروحة.
واللافت أيضاً أن عودة المسلسلات ذات عدد الحلقات المحدود وانتشارها عبر بعض المحطات التلفزيونية أخيراً جاءا بعد نجاح تلك التيمة على منصات مهمة، مثل "شاهد" و"نتفليكس" و"فيو"، إذ حظيت في الفترة الأخيرة بقبول جماهيري ونقدي، وأيضاً عرفت طريقها إلى الجوائز العالمية، كما أن مكتباتها ضخمة، وتضم أعمالاً من مختلف دول العالم.
مشاهدة التلفزيون أصبحت طقساً!
وبعدما كانت القنوات التقليدية هي التي تقود التغيير في القوالب الدرامية باتت تضع عينيها على ما يجري على منصات البث، التي تتميز أولاً بقاعدة جاذبة هي عين وقلب الإنتاج الفني ألا وهي "الحرية"، سواء حرية القوالب أو طرح الموضوعات وبسقف أعلى بكثير مما تتيحه الشاشات المفتوحة أو حتى القنوات المدفوعة.
لم تعد المحطات الكلاسيكية هي من ترسم الطريق وتضع الخطط، وكما هو واقع فإن الوسيط الثالث بين التلفزيون والسينما هو الذي يقود، فإذا كانت منصات مثل "يوتيوب" وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي هي وسائط مكملة، وتروج بالأساس لأعمال جهات العرض والإنتاج، فإن تطبيقات البث الإلكتروني هي وسيط كامل يختار وينتج ويعرض، وهو أمر طبيعي في ظل تزايد أعداد المشتركين يوماً بعد آخر.
ولم يعد فقط جمهورها من الشباب، إنما أيضاً أصبحت هناك أجيال أكبر تفضل هذه الطريقة الأكثر راحة والأكثر توفيراً للوقت، ليتحول التلفزيون إلى طقس يزدهر في مناسبات معينة بحكم التعود لا أكثر، وهي أمور رسختها عزلة كورونا، في ظل زيادة مدة الجلوس في المنزل بعيداً عن التجمعات، بالتالي ارتفاع الطلب على المشاهدات الحصرية، للتغلب على ملل الحجر الصحي الذي استمر طويلاً.
وخلال نهاية 2020 مثلاً أعلنت "نتفليكس" عن تجاوز عدد مشتركيها الـ200 مليون مشترك حول العالم، وهو رقم بالطبع ارتفع على مدى الأشهر الماضية، إذ زاد بمقدار 37 مليون مشترك تقريباً خلال السنة الماضية فقط، كما تجاوز عدد مشتركي HBO Max الـ33 مليوناً وفقاً لتحديثات أبريل (نيسان) من هذا العام.
وحظيت منصة "ديزني بلاس" بـ116 مليون مشترك وفقاً لتصريحات مسؤولي المؤسسة في أغسطس (آب) الماضي، إذ انضم 12 مليوناً فقط خلال ثمانية أشهر، وهو ضعف عدد المشتركين الجدد الذين انضموا العام الماضي.
وبحسب ما كشفته منصة "باركس أسوشيتس" المتخصصة في مجالات الأبحاث وتحليل الأسواق والاستشارات للشركات المتخصصة في خدمات التكنولوجيا، فإن اشتراكات القنوات التلفزيونية المدفوعة تتراجع بشدة مقارنة بارتفاع هائل في اشتراكات البث الإلكتروني، وهو الأمر الذي شهد تزايداً كبيراً خلال العام الماضي بالأساس.
أفكار مختلفة وتجارب أكثر تحرراً
قد تكون أزمة كورنا أسهمت في عملية تسريع تحول نمط المشاهدة، لكن الأمر لم يكن تغييراً مفاجئاً بالمرة، فالتحول للمنصات بدأ منذ سنوات وعاجلاً أم آجلاً سيصل إلى مراحل تكون معها طرق المشاهدات التقليدية شيئاً من التراث بالكامل.
لكن، الفكرة الأهم هنا هي أن نمط الإنتاج واختيار النصوص وحتى صناعة النجم والبطل باتت تتطور بشكل سريع ومتواتر في خلال فترة قصيرة جداً، لتلبية احتياجات المشاهد التي لا تتوقف، وأيضاً لتواكب الأفق المختلفة لمشتركي المنصات، وهي تلك النقلة التي باتت ملموسة بالتطرق إلى موضوعات جريئة وغير تقليدية، لم تكن مطروقة بقوة من قبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكذلك تجريب أفكار مختلفة في أسلوب العرض والتصوير والإخراج، لأن المنافسة على عقل المشاهد واشتراكه الشهري محمومة على الدوام، بالتالي فهي تسهم في تحقيق مبدأ التنوع بقوة سواء فيما يتعلق بالموضوعات التي تطرحها النصوص المختارة، أو حتى فيما يتعلق بتغيير خريطة النجومية، واللجوء دوماً إلى وجوه صاعدة وإعطائهم فرصاً وحتى إعادة اكتشاف النجوم المعروفين من خلال أدوار غير معتادة، إذ تتيح لهم تقديم شخصيات تبدو صادمة.
اللافت أيضاً أنها كسرت فكرة احتكار العرض الرمضاني للأعمال الجديدة، وجعلت القنوات تقلدها، والأمر وصل كذلك إلى السينما، فبخلاف إنتاج أفلام ذات أفكار مختلفة، لكنها أيضاً تعرض خصيصاً عبر تلك التطبيقات.
المنصات تقود التغيير الدرامي
ومن داخل مطبخ الصناعة نفسها تتحدث المخرجة مريم أحمدي، صاحبة تجربة مسلسل "60 دقيقة"، بطولة ياسمين رئيس ومحمود نصر وتأليف محمد هشام عبيه، الذي تصدر قوائم الأعلى مشاهدة منذ عرضه عبر تطبيق شاهد VIP، إذ تصف العمل الذي تدور أحداثه حول انحرافات الطب النفسي وأزمات الكبت الجنسي والتحرش كذلك، بأنه "مغامرة". مشيرة إلى أنها لم تكن لتضمن تنفيذه بالطرق التقليدية أبداً، لكن "في ظل وجود منصات عرض وجدت جهات تتحمس له".
تقول مريم أحمدي، "المسلسل متحرر وجريء ومختلف من حيث السرد والإيقاع. اعتبرت نفسي أقدم من خلاله تسعة أفلام لا تسع حلقات، وهي أمور أسهمت في كونه ملائماً للعرض عبر منصة مدفوعة، حيث سقف التناول أعلى بكثير، وكل ما كان يهمني أثناء التنفيذ أن يخرج موضوعه بشكل إنساني يمس الناس من أي مكان في العالم، وهو أمر أعتقد أنه تحقق نسبياً، لأنه تصدر قوائم المشاهدة في دول أوروبية أيضاً".
وعلى الرغم من كل تلك التغييرات وتأكيد أحمدي أن المحطات التلفزيونية هي التي أصبحت تقلد تجارب المنصات، فهي أيضاً ترى أن الأمور لا تزال في بدايتها، "أرى أننا ما زلنا في مرحلة التغيير، فما زالت بعض المنصات تراعي بالأساس أن العمل الذي تتصدى لإنتاجه سيعرض كذلك عبر قناة مفتوحة".
وتشير أحمدي إلى أن هناك نقطة مهمة، وهي أن "العمل يجري اختياره للتنفيذ وفقاً لموضوعه وقوة عناصره، بعيداً عن اسم النجم، إذ جرت العادة أن يجري تسويق أي عمل باسم البطل أولاً بعيداً عن فكرته وقصته ومستواه، وذلك لاعتبارات إعلانية وترويجية، لكن هذه الأمور تغيرت. المشاهد هنا يدفع الأموال ما قبل الحصول على أعمال مختلفة، ولا أزال أتمنى أن نتناول موضوعات أكثر جرأة، لتكون مقومات المنافسة مع المنصات العالمية متساوية، فالنجوم العالميون مثلاً الكبار لم يكونوا يلتفتون إلى المنصات في البداية، لكن رغماً عنهم بعد هذا الانتشار أصبحوا يتسابقون للعمل معها".
وعلى ما يبدو أن ما تطلبه المخرجة مريم أحمدي قادم لا محالة، فجهات الإنتاج باتت أكثر تقبلاً وانفتاحاً، لأن النجاحات التي حققتها أعمال المنصات، التي تبدو بعضها ذات ميزانية معقولة وليست باهظة وأجور أبطالها غير مبالغ فيها، أصبحت مشجعة لجهات الإنتاج التي تبحث عن الجماهيرية والربح والجوائز والإشادات النقدية بكل بساطة.