Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جريس سماوي شاعر يستبطن الذات الإنسانية 

"ثلاث ليال سوياً" صدر بعد رحيله ويضم قصائد غير منشورة

 الشاعر الأردني الراحل جريس سماوي في إحدى أمسياته (صفحة الشاعر على فيسبوك)

يقتفي ديوان "ثلاث ليالٍ سويّاً" الأثر الشعري المتبقي للشاعر الراحل؛ وزير الثقافة الأردني الأسبق؛ جريس سماوي (22 ديسمبر/ كانون الأول 1956-10 مارس/ آذار 2021)، بعد مجموعته الشعرية المعروفة "زلة أخرى للحكمة". فالديوان الجديد، الصادر حديثاً في عمّان بتحرير زهير أبو شايب (دائرة المكتبة الوطنية)، يتضمن قرابة أربعين نصّاً شعريّاً لسماوي لم تُدرج من قبل في كتاب، وإن كان بعضها نُشر منفرداً بالصحف المحلية.

وقد جاء إطلاق الديوان (132 صفحة) بالتزامن مع انعقاد الدورة الخامسة والثلاثين لمهرجان جرش للثقافة والفنون، التي حملت اسم جريس سماوي، مدير المهرجان الدولي الأسبق، وأحد الفاعلين في المشهد الثقافي الأردني والعربي خلال الأعوام الماضية.

الطواف والرقص

تبدو قصائد سماوي في "ثلاث ليالٍ سويّاً" مشغولة بإثارة الأسئلة حول مغزى الشعر، وحقيقة الشاعر، وطبيعة العلاقة بين المبدع ونصوصه، فلربما يسكن الأديبُ حروفَه، أو يسكن إليها كما يطمئن إلى زوجة حنون، ولربما تنوبُ الحروفُ عن خلاياه الشحية، ومراكز جنونه، وخيوط أعصابه المشدودة.

وفي الحالات كلها، فإن الشاعر هو جوهر الاشتعال، وهو ذلك الكائن الذي يستمر في الطواف حول روحه، ممسكاً ببقايا ثيابه، جامعاً فوق صدره بياضه، حافياً كالمطر والقمر وعشب الضفاف الذي لوّثته خطايا البشر، كَعْبَتُه داخله، وحجيجه معه. يقول "الكتابة نوعان: حبرٌ مسفوحٌ، أو نارٌ في الصفحة/ .../ كأنكَ يا حِبْرُ أبي، وكأنكِ يا ريشةُ أمي/ وأنا... زوجتي القصيدةُ، أدخلُ إلى جسدها المضيء، وأشتعلُ".

ومع تشبثه بالجسد، في المعنى الصوفي، في زمن المرارات والضعف والخوف، يمضي الشاعر بموجاته المتلاحقة كنهر يأبى الانكسار على حوافّ الصخور العمياء، فيحوّل بالكتابة كآبة الروح إلى الخمر الصوفي في سكرات الإشراقات. ومع فيوض الكلمات الشعرية والأنغام الموسيقية، تتولد من تلقاء ذاتها رقصات الدرويش، حيث يكتسب الحزنُ دلالات جمالية في مكابدات الشاعر، الذي ينحت تجربته نحتاً ويحفر لها عميقاً في المعاني، فيلفّه الحزنُ النبيلُ؛ سيّدُهُ وشيخُه ونبيُّه، ويقوده من يده إلى نشوة الخدر العليا.

وهكذا، فإنه يفرّ من جاذبية الأرض ومداها المحدود بالخفة والطيران الفوقي، وهو يدعو معشوقته في الفالنتاين إلى الرقص من أجل الهيام والتحليق في الحلم كخيول الخرافة وضبط كل المعادلات المستعصية على الحل "هل رأيتم في المرأة، أجملَ من قدمين تتقنان الرقص؟/ الرقصُ إعادة للتوازن، بين الكون والجسد/ الرقص موسيقى الأعضاء/ الرقص لغة، والراقصون شعراء/ المرء ذو القدمين اللتين لا ترقصان، كسيحُ الروح والمعنى/ العطر عاشقة متصوفة، تلاشى جسدها".

صلوات الأعماق

وعلى النحو ذاته، في إعادة تسمية الأشياء وتوصيف الموجودات وفهم العلاقات، ينطلق الشاعر "راعي الفراغ العظيم، الذي يحزن من أجل لا شيء، ويرنو لما لا يُرى" في قصائد ديوانه "ثلاث ليالٍ سويّاً" صوب استبطان الداخل الإنساني والغوص بعيداً في أعماق الذات، من أجل شحن القصائد بلواعج العشق الصادق "قبّليني لأدرك كُنهَ اكتمالي"، وتحميلها بجوّانيات الجُرح الدامي الفوّاح، والسعي إلى تنسّم هواء الحرية "هيّا نسترجع رجع الصوت، أريد الحرية"، وإقامة التراتيل والصلوات في محبّة المقرّبين إليه، وعلى رأسهم "الوطن".

وفي تلك الأجواء التبتّلية التضرّعية، تتلاقح في تجربته الخصيبة ترانيمُ المسيحية، وعباداتُ الإسلام، وطقوسُ المتصوفة، وممارساتُ الأطهار من سائر الأديان والمعتقدات. وهو لا يدخل محراباً أو يعتلي منبراً كواعظ أو ككاهن أو كمتحلل من الآثام، وإنما كبشريّ صرف، بسيط وفقير، ومعجونٍ بالنزق؛ إلى درجة أنه يسمّي نفسه "إمبراطور كل الخطيئات والموبقات"، حيث قد لا يجد لذاته أجنحة أحياناً سوى تلك المصنوعة من الندم والوجع والإحساس بالتعب والملل.

وعلى صهوة من دخان الرؤى وغبار الطريق يصعد رويداً رويداً، خفيفاً، شفيفاً، نقيّاً. وفوق سجّادة الصمت يجلس، وحيداً في الخفاء، يصغي إلى صوته الباطني، ويقيم صلوات الأعماق، ومنها مناجاته للوطن، الأقرب إليه دائماً من حبل الوريد "إنني غائمٌ/ وأصلّي لأجلكَ يا وطني، وأصلّي إليك/ أنا غائمٌ، لا أرى في المدى نجمتي، نجمتي تتهادى بدوني، وتمضي إلى سَمْتِها، تتهاوى، وأمضي أنا لشجوني/ ويا وطني، لا تخُنّي، وبدِّدْ ظنوني/ أنا أتّقي بيدَيَّ انهيارَ الجهاتِ/ وأسندُ ما انحنى من جدار الغروب/ وأرتُقُ ثوبَ الموانئ وهي تطوف على الماء، تحشرُ في حِجرِها سفنَ الوقت/ تنامُ الضفاف/ أنا فاترٌ/ وأصلّي إليكَ".

تاريخ المتاهات

لا يكتفي الشاعر جريس سماوي بتعيين النقاط الزمكانية المؤسفة والبائسة التي يلاقيها في موضعه وفي عصره الماديّ الراهن، والتي تمثل إحداثيات ضيعته وتمزقه ووحدته في صحراء الحياة القاحلة، وإنما تأخذه الرحلة الوجودية فوق الأشواك إلى اغتراب داخليّ أكثر قسوة ووحشة "أنا رحلتي داخلي/ أنا سفري نحو ذاتي/ وذاتي مكان بعيد/ بعيد هناك على طرف الكون/ لمن أقرأ الحزن وحدي إذن؟/ ولماذا أغنّي؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتقصى الشاعر كذلك تاريخ المتاهات عبر العصور البائدة، مستحضراً سِيَرَ أسلافه الغابرين، القريبين والبعيدين، ومنهم رفاق الحرف في الثقافة العربية، الذين يتناصّ مع تجاربهم، مثل الشنفرى الشاعر الصعلوك، الذي هجر قومه في العصر الجاهلي، وأقام في الصحراء متآلفاً مع الذئاب، وكتب قصيدته المعروفة، التي يقول فيها "أقيموا بني أمي صدورَ مطيّكم... فإني إلى قوم سواكم لأمْيَلُ". وكذلك المتنبي، الذي يستحضره في النص الافتتاحي بالديوان "أتى العيد"، مستدعياً قصائده الشهيرة "عيد بأية حال عدتَ يا عيد"، و"على قلق كأن الريح تحتي"، ليصل إلى أن طرقات الأمس وطرقات اليوم تتشابه في كونها كلها ضلالات ومتاهات وضياعاً للخطوات، وأن الوطن العربي حصان جريح، ودم سائل في السفوح، وتاريخ سقط في أيدي البلهاء "يخلعون عن الموصل الآن تاريخها كالملاءة/ يذبحون المقامات والشعر/ تبكي دمشق وينجرح الياسمين".

ينفذ الشاعر من بوابة المعرفة إلى الكثير من الشخصيات التاريخية والدينية والأسطورية، ليتماسّ مع مآسيهم، ويتقاطع مع شواهدهم، كما في تماهيه مع سلفادور دالي في لوحاته السريالية حول الساعات المنصهرة والزمن السائل الذي يسجّل ارتعاشات الكون، وكما في واقعة جزّ رأس يوحنا المعمدان بناء على إشارة من الراقصة سالومي. ومن مثل هذه الأحداث الحمراء، يطلق سماوي إسقاطاته على الواقع الحالي، الذي لم يتبدل فيه شيء، بل إنه ربما يكون قد سار إلى الأسوأ والأكثر مرارة، بينما الناس يصفّقون منبهرين بالفضيحة والأكاذيب والزيف "أرى في الطرقات الدماء/ والأيادي ملطّخة، والسيوف/ أنحن تماثيل صمتٍ من الثلج في متحف المرحلة؟/ أم شهودٌ على المقصلة؟/ قتلة، أم ضحايا؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة