لماذا لا تستطيع أوروبا تقديم أبطال صناعيين عالميين؟ وكيف تقاوم القارة الخضراء الصناعات الصينية إذا فشلت أعمالها في النمو خارج حدودها؟ ما القواعد الأسلم للمنافسة الحقيقية على المستوى العالمي؟... أسئلة كثيرة تتردد في أروقة المفوضية الأوروبية في بروكسل، ففي أوائل فبراير (شباط)، أعاد رفض الاندماج بين شركتي "ألستوم" و"سيمنز" من جانب بروكسل، النقاش حول أهمية سياسة المنافسة الأوروبية.
وفي أعقاب ذلك، تبنّى كل من باريس وبرلين بياناً مشتركاً "لسياسة صناعية أوروبية تواكب القرن الحادي والعشرين"، داعيتين إلى مراجعة القواعد التنافسية، بما يتيح بروز أوزان ثقيلة اقتصادية أوروبية. هذا الملف الحساس مطروح على المفوضية المقبلة لمعالجته بعد الانتخابات الأوروبية في نهاية مايو (أيار) الجاري.
غياب عن المنافسة
"مجلس التحليل الاقتصادي الأوروبي"CAE ، (مركز أبحاث يترأسه رئيس الوزراء الفرنسي)، نشر مذكرة حول هذا الموضوع قبل أيام، بعنوان "المنافسة والتجارة: ما السياسات بالنسبة إلى أوروبا؟".
تناقش المذكرة فاعلية التدابير في هذا المجال، ملاحظتها الأولى كانت مفاجئة، "لا شيء يشير إلى أن أوروبا لديها سياسة منافسة جدية"، وتوضح المذكرة أن "من بين 2980 عملية اندماج أُبلغت بها المفوضية الأوروبية بين الأعوام 2010 و2018، تم رفض 7 عمليات، ومن أبرز المقبولين اندماج Luxottica وEssilor في البصريات، وLafarge وHolcim في الأسمنت". وهذا يثبت أن "المنافسة لا تمنع ظهور قوى صناعية أوروبية فاعلة"، كما يقول واضعو المذكرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول جو هوبورث، رئيس "مركز الأعمال البريطاني" في دبي، لـ"اندبندنت عربية، "إن الاندماجات والاستحواذات مهمة لأوروبا فيما يتعلق بالمنافسة. أعتقد أن ما رأيناه خلال الأعوام القليلة الماضية هو عودة الإنتاج من الصين إلى القارة، وهناك عوامل عدة تقود الاندماج والاستحواذ تعتمد بشكل أساسي على قيمة الأصول والعوائد المنتظرة".
ويضيف هوبورث، أن "المنافسة التجارية قائمة في العالم، وهناك من يفوز، وهناك من يخسر، والخسارة لا تعني أن هناك خطأ في هيكلة الشركات، فلو نظرنا إلى ألمانيا خلال الأعوام الثلاثين أو الأربعين الأخيرة، فسنرى أن منافستها لم تكن قائمة على الأسعار، فقد كانت في ذلك الوقت تملك عملة قوية (المارك)، وكانت صادراتها في الطليعة رغم قوة العملة الألمانية".
الشركات الأميركية
المقارنة مع الولايات المتحدة على مدى 15 عاماً أخذت حيزاً من البحث في مذكرة "مجلس التحليل الاقتصادي الأوروبي"، وتقول في هذا الإطار "كانت للتدابير المؤيدة للمنافسة في بعض الدول آثار إيجابية. مثال على ذلك، إن منح الترخيص الرابع لشركةFree en France ، في العام 2011، خفّض سعر خدمات الاتصالات بنسبة 40٪، وهو الآن أقل من مثيله في الولايات المتحدة. وفي المقابل، إن شركات أميركية مهيمنة في قطاعها، حققت نمواً في أرباحها بشكل أسرع من نظيراتها في القارة الخضراء، لكنها لم تحفّز المنافسة، فقد استخدمت الأموال لتوزيع مزيد من الأرباح أو إعادة شراء أسهم، في حين تراجعت استثماراتها، لا سيما في مجال البحث والتطوير. في الوقت نفسه، ظلت مستقرة في أوروبا، وبعبارة أخرى المشكلة الأوروبية لا تأتي من سياسة المنافسة، التي وضعها الاتحاد، حتى لو كانت مثالية، حسب المذكرة. بل من طرق ترجمة هذه السياسة مع السياسة التجارية".
السياسة التجارية
وتضيف المذكرة، أنه "إذا كانت سياسة المنافسة تشكل إطاراً للسوق الداخلية، فإن السياسة التجارية تحدد العلاقات الأوروبية مع الخارج، وفقاً لقواعد (منظمة التجارة العالمية)WTO ، وهنا تكمن المشكلة، ففي وقت تتعرض فيه التعددية للتهديد من قبل الحمائية، التي يمارسها دونالد ترمب، فإن هذا الإطار لم يعد كافياً. يجب على أوروبا أن تسلّح نفسها للدفاع عن مصالحها الاقتصادية، ويصر المؤلفون على تسليط الضوء على الحالات، التي تكون فيها القواعد الأوروبية غير فعالة، فيصبح بالتالي الوقت المستغرق للتعامل مع انتهاكات الشركات المهيمنة طويلاً للغاية، وفي بعض الأحيان، تختفي الشركات المنافسة قبل حل القضية".
مراقبة الاستحواذات
وتشير المذكرة المرفوعة إلى بروكسل إلى بعض عمليات الاستحواذ، التي تصفها بأنها "قاتلة للابتكار"، وتقول إنه "عندما تشتري مجموعة أجنبية كبيرة مثل (غافام) شركة فرنسية أو ألمانية ناشئة فقط من أجل القضاء على المنافسة، يجب أن لا يغيب ذلك عن رادارات المفوضية الأوروبية، التي عليها أن تميز هذا النوع عن الاستحواذات الكلاسيكية"، وتقترح أن تقوم السلطات المنظّمة للمنافسة، بوقف العمل في هذه الاستحواذات، لا سيما في الحالات الواضحة، كما هو الوضع في الولايات المتحدة.
إصلاح "منظمة التجارة"
لكن القضية الأكثر إشكالية قد تكون الإعانات الحكومية، وتعرّفها "منظمة التجارة العالمية" بأنها "المساهمات المالية المحددة بوضوح من جانب حكومة أو كيان عام لشركة". ففي وضع الصين، إن الطبيعة الأولى للدعم الرسمي، الذي غالباً ما يأخذ شكل الحصول على رأس المال، تمر عبر عدد من القنوات، وتتجاوز هذا الإطار بكثير، وتقترح المذكرة في هذا الإطار إصلاح اتفاقية "منظمة التجارة العالمية" بشأن الموضوع، وتعزيز التزامات الشفافية، وتيسير اعتماد تدابير تعويضية عندما تكون هذه الإعانات ضارة.
ويتّهم الأوروبيون الشركات الصينية بشكل واسع بالحصول على معاملة تفضيلية، وتظهر دراسة استقصائية للأعمال التجارية في الصين أن "نحو 62% من الشركات الأوروبية تعتبر أن لدى نظيراتها الصينية قدرة أكبر على الحصول على عقود عامة".
وتضيف، أن الشركات الأوروبية "عالقة في مرمى النيران المتبادلة" في الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، ولم تستفد منها العام الماضي، حسب غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين، ووفق الدراسة، تعد الحرب التجارية من أبرز مصادر القلق بالنسبة إلى الشركات الأوروبية في الصين 23%، بعد تباطؤ الاقتصاد الصيني 45% والاقتصاد العالمي 27% وازدياد تكاليف العمالة في الصين 23%.
وأجريت الدراسة التي شملت إجابات من 585 شركة في يناير (كانون الثاني). وتصنّع شركات أوروبية كثيرة منتجاتها في الصين، وتصدّرها إلى العالم، وانتقل عدد قليل منها 6% أو تخطط للانتقال إلى دول أخرى في آسيا وأوروبا لتجنّب الرسوم الأميركية.
مدّعٍ عام تجاري
ونظراً إلى صعوبة تطبيق المعاملة بالمثل في فتح الأسواق العامة، لأن عدم الوضوح فيما يتعلق بالقواعد يضع أوروبا في وضع غير مواتٍ أمام القوة الصينية، تقترح مذكرة CAE أيضاً إنشاء منصب "مدع عام تجاري" أوروبي، يكون محصناً بوسائل تحقيق جادة وقادرة على اتخاذ تدابير حماية، وهذا سيتيح للأوروبيين التحدث بصوت أقوى على الساحة العالمية، وحل أهم المشكلات في مجال المنافسة والحماية.
ولا تتطرق المذكرة إلى الكثير فيما يتعلق بالسياسة الصناعية، وهو الجزء الآخر المهم الذي يمكن أن يساعد أوروبا في تكوين قوى منافسة عالمياً. ومع ذلك، فإنها تدعو إلى "إنشاء مشروعات مهمة ذات مصالح أوروبية مشتركة، تسمح بمساعدة الحكومات، ليس للشركات بل للقطاع الصناعي المنتشر على امتداد دول الاتحاد، وفي هذا السياق، تأمل باريس وبرلين بناء صناعة أوروبية للبطاريات الكهربائية، من المحتمل أن تنافس جدياً المنتجات الصينية".
ويرى هوبورث، الذي يحتضن مجلسه الأعمال البريطانية في الإمارات، وتحديداً الشركات البريطانية الصغيرة والمتوسطة، أن "قطاع التصنيع في أوروبا ربما هو أقل تنافسية، فالمصانع الأوروبية، وإن كانت قائمة في مختلف مناطق العالم، إلا أنها تعاني كثيراً كي تبقى في حلبة المواجهة".