Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نصوص هاني نديم تقارب أدب الرحلة بطرافة

كتاب "لوغارتم الوجوه" يسلك خطى ابن النديم بالسرد الإنطباعي

لوحة للرسام فؤاد حمدي (صفحة الرسام على فيسبوك)

في نهاية كتابه ينصح الكاتب المصري هاني نديم قارئه "سافر، سافر ولو إلى القرية المجاورة، وعُد إلى منزلك متعباً من طولك الذي صار طولين، وعقلك الذي أصبح عقلين". "لوغارتم الوجوه المتتالية الخطى: فهرست ابن النديم" (دار روافد)؛ هو كتاب عن "السفر وللسفر وفيه"، من 450 صفحة من القطع الكبير.

من عبقرية اللغة العربية أن جِذر "سفر" حمَّال أوجه، فهو انتقال بالجسد بين مكانين، ومعراج بالروح بين زمنين. هو انكشاف عابر السبيل أمام أعين الآخرين، وبياض الصبح إذا تنفس، وحمل الرسائل والهدايا بين أحباء وغرباء، وسفَّر النار أوقدها، ومجاز النار دال على المعرفة. فكلما سافرنا في كل اتجاهات الجسد والروح، "عرفنا" وأوقدنا شعلة المعرفة. فهل حقاً المتعة في الرحلة أم في الوصول؟ في حالة الشغف إلى المجهول أم في لذة المكافأة؟

خبط عشواء

يستعمل العرب تعبير "خبط عشواء" لمن يتيه هنا وهناك، من دون تخطيط وإرادة، ويُقر هاني نديم ابتداءً بأن حياته قامت على "المصادفات، لا شيء مخطَّطاً له على الإطلاق، إنه تدافع الشغف، لم أفعل شيئاً سوى أنني آمنت بالتعب، ووضعتُ كل ثقتي في طاقة العمل والمثابرة بلا انقطاع على أن تختار لي الحياة بحكمتها المحل الأنسب".

غادر النبك في سوريا مسافراً عبر العالم. خرج ـخبط عشواءـ وراء الشغف والشعر والموسيقى والبلاد وحكايات العباد. واختار لكتابه أن يُطابق رحلته، فلم يصنفه وفق تبويب صارم، هذا فصلٌ عن العالم العربي وذاك فصلٌ عن أوروبا. هذه رحلات الصيف وتلك رحلات الشتاء. ولا انتقلَ بنا من الأقدم إلى الأحدث، بل تداعت فصوله وسطوره حرة طليقة. فوضى من "الأسفار" عبر المدن والذاكرة والتاريخ والجغرافيا والفولكلور والشعر والسينما. وبدت العناوين الجانبية، قد كُتبت على عجل، كإشارات مرور تنظم سيلاً جارفاً من المعاني وحكايات الشعوب.

فحياة هاني نديم هي "أسفار"، وكتابه جاء مخلصاً لروح شاعر جوّاب آفاق. وفقاً لمقولة روبرت فروست "اخترتُ الطريق التي سُلكت أقل، وهذا شكَّل الفارق معي".

رحلة داخل الذات

أي تصنيف ضيق يضع الكتاب تحت لافتة "أدب الرحلات"، مع ذلك تعمَّد مؤلفه أن يتجاوز تلك الأطر التقليدية، وأن يبقيه عصياً على التصنيف. فهو يستدعي طفولته ومحطات من سيرته، وشخصيات مرَّ بها، وكتباً، وأفلاماً وأغنيات تخصه أولاً. كأنه يُسقط تجربته على العالم من حوله، أو يرى العالم في مرآة ذاته؛ فالنصوص كلها وليدة تفاعل الذات وخبراتها وحواسها، مع كل ما رأتْ.

يحكي ـمثلاًـ عن ليلة القدر بصحبة جدته لأمه، والدعاء الذي دعاه "اللهم أرني بلادك وعرفني عبادك". وعن شقاوة الطفولة، والتكوين المعرفي، ورجال وذئاب البلدة، وذلك النصب في ميدان النبك المصمَّم على شكل جناحين رهيفين.

يقول "بعد ربع قرن في الكتابة الصحافية، وبعد أطنان من الورق أزهقناها تحبيراً وكتابة؛ كلما جئتُ لأكتب لفظ (دمشق) أو الشام، يقف قلبي وأفقد التنفس للحظة تماماً كما حدث حينما باغتني والدي وأنا أدخن وراء الحائط أول عمري". الكتاب لا يتميز بالتمرد على نسق أدب الرحلات فحسب، بل هو رحلة عميقة داخل الذات، بقدر ما هي داخل العالم.

معبر بين المسارات

"إيستكاه"؛ كلمة فارسية معناها "المحطة"، وتستعمل في النوتة الموسيقية بمعنى الوقف والعلامة الفارقة والانتقال. اختارها المؤلف لدوزنة كتابه موسيقياً، ومَعبراً بين المسارات، ولازمة إيقاعية، واستراحة قصيرة بين أسفار طويلة، يحدثنا فيها عن أغنية "الشفاه المشوهة"، وبروكسل في الأغاني، و"البنت قالت فستاني.. منشور على الشط التاني"، و"يا طيور الطايرة". وهكذا كانت مقاطع الـ"إيستكاه" ـفي معظمهاـ تحايا لأغنيات وشعراء، وفرق غنائية.

و"مانفيست"؛ كلمة تحيل إلى معنى "بيان"، اتكأ عليها نديم كثيراً في عنونة المقاطع، ومنها "في كره الفرنسيين للأقدام السوداء"، و"كره البرابرة"، و"في كره الإنجليز: الثعلب القديم". إنها لافتة عابرة لا يتوقف الكاتب إزاءها كثيراً، غالباً ما ارتبطت بتوضيحات حول الكراهية بين الأعراق.

و"مسار"، لافتة أخرى استعملها نديم في نسج فصول كتابه، وكما يوحي المعنى فهو أشبه باستكشاف درب خاص داخل المدن، وحقول المعرفة والإبداع، مثل تتبعه مسار "الكوميكس" في بلجيكا، وفن "الراي" في الجزائر، ومصارعة الثيران، والموسيقى التركية، والطرابيش، والأزياء والموضة. فعنوان "مسار" كان بمثابة مدخل لكل رحلة سياحية ومعرفية، حول موضوع ما.

و"فهرست"، غالباً تلازم عنوان "فهرست" مع "مسار" ولحق به، فهو بمثابة تصنيف ورصد لمحاور موضوعه، فيقدم لنا الكاتب نُبذاً عن أهم مطربي "الراي"، ونبذاً عن أشهر مطربي تركيا، ورسامي هولندا، ومصممي الأزياء الطليان، وتاريخ "الكوميكس" في بلجيكا، كما يقدم تعريفاً بأشهر مقاهي القاهرة وفرنسا وبيروت ودمشق وعمان والمغرب العربي.

وجوه وخطى

"السفر بالنسبة إليَّ امرأة تذهب للقائها أول مرة، مغامرة غير محسوبة، نص شعري أذهب إليه كما علَّمني هوميروس (الشعر رحلة صيد ليلية)، أقول هذا بعد كل هذا السفر".

ثم يضيف نديم "كانت عدتي كالآتي: سجائر، سترة، كتاب للقراءة، ورقة وقلم حتى بوجود الموبايل الذكي، اللابتوب، زجاجة عطري الذي أستخدمه منذ ثلاثين عاماً. الكثير من (الكلاسين)! حقيبة غبية أليس كذلك؟". ولا يميل مع الاستعداد للسفر إلى أن يدير محركات البحث لمعرفة الوجهات والمسافات والقوانين بل يقول "لدي (ليستة) خاصة وبسيطة بأماكن الزيارة، بقية (الليستة) أبنيها هناك أو أضطر للبحث من قلب البلد".

وتحت عنوان "لوغارتم الوجوه المتتالية الخطى" ـوهو نفسه عنوان الكتاب يتحدث نديم عن تغير علم الجغرافيا، وعدم اليقين في علم التاريخ، متسائلاً "كيف طرتُ بجناحين من علمين ناقصين؟ أم طرتُ بجناحين من شمع الخيال مثل إيكاروس؟ أخترع أمكنتي وتخترعني".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهنا يضع مقاربة: دمشق، الأمويون، الشعر، محمود درويش، دمشقي بأندلس، ليصل إلى أنه لولا دمشق ما كانت طليطلة.

ثم يعيد المقاربة بشكل آخر متحدثاً عن جِلد الحمار الوحشي المعلق في دارهم الأولى، الذي يثير تعجب الضيوف. ثم بعد أكثر من ثلاثين سنة يأتيه اتصال من قناة فضائية قدَّمت له عرضًا لكتابة وثائقي عن الحمار الوحشي والاستعداد للسفر إلى كينيا.

كأنها مسارات غامضة، مقررة لنا سلفاً: خطى مكتوبة، خطى مشيناها وكل ما نتصوره منفصلاً قد يبدو متصلاً بأوثق مما نتخيَّل. وهو ما يحيلنا في مطلع كتابه إلى أسطورة وصف العميان للفيل. كأنه يخبرنا تكراراً بأنه مهما كان مبصراً، ومهما تجوَّل بين قارات العالم، لا يستطيع بحواسه المحدودة سوى أن يخبرنا عن "العالم الفيل" الخاص به، ما استطاع التقاطه وملامسة علاماته وإحالاته وتحولاته. هذا الوجود السيّال، المُحلق بجناحي التاريخ والجغرافيا.

"لوغارتم الوجوه المتتالية الخطى"؛ كتاب أحوال؛ أحوال نفس وأحوال بشر وشعوب، أو كما يقول هاني نديم في مقدمته "أنا ابن الأماكن المفتوحة والأسواق المحتشدة والطمي والطين والزمهرير والجرد والجروف ورائحة المارة المتبدلة على الرصيف وكأنك في مطبخ الله... الله الذي يطعم هذه الحياة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة