حين صعد الرئيس جو بايدن إلى المنبر خلال الجمعية العامة الـ76 لـالأمم المتحدة هذا الأسبوع، كانت إدارته تعاني جرحين جلبتهما على نفسها في السياسة الخارجية، وفق آراء منتقدين. تأتى الجرح الأول والأوضح من قراره سحب الولايات المتحدة من حربها التي طالت لـ20 سنة في أفغانستان، وجاء الثاني من قراره الانضمام إلى المملكة المتحدة في تشكيل تحالف جديد يركز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ وصفقة مشاركة تكنولوجيا الغواصات النووية مع أستراليا.
لقد راهن بايدن في حملته الانتخابية للرئاسة 2020 على التناقض بين ذلك النوع من الكلام المنمق المناسب للديكتاتوريين الذي ميز دونالد ترمب وجعله يبعد الحلفاء غالباً من طريقه (حرفياً أحياناً) مع توبيخهم لعدم دفعهم ثمن الحضور العسكري الأميركي في أوروبا وآسيا من جهة، وبين احترامه [بايدن] التحالفات القديمة المستقاة من سنوات طويلة في حضور القادة العالميين المُرَحّبين ببعضهم بعضاً.
وقد ظهر بايدن في خطابه الأول أمام الجمعية العامة كرئيس ملتزم بخطابه، إذا جاز التعبير. إذ تعهد بايدن بعصر من "الدبلوماسية الصلبة"، ووعد أيضاً بأن أميركا في عهده ستعمد إلى "استخدام قوة مساعداتنا التنموية في الاستثمار لإيجاد طرق جديدة في تعزيز أوضاع الناس حول العالم" وكذلك "تجديد الديمقراطية والدفاع عنها" من خلال إثبات أن "الحكومات التي يأتي بها الشعب وتعمل من أجل الشعب، لا تزال أفضل طريقة في تحقيق الإنجازات لشعبنا كله".
لكن بعد الانتهاء من كلمته وعقده محادثات ثنائية مع أحد الزعيمين اللذين أعلن معهما تحالف "أوكوس" الأسبوع الماضي، هو رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، غادر بايدن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
واستطراداً، جاء ذلك بعيداً تماماً من الحضور الأول لسلفه في الأمم المتحدة. فعلى رغم أن الرجل الذي يفضل بايدن ومستشاروه أن يسموه "الرجل السابق" تعرض إلى السخرية غالباً (والضحك عليه في وجهه مرّة على الأقل) بسبب النبرة النازعة إلى القتال في كلماته السنوية أمام الجمعية العامة، إلا أن ترمب أمضى أسبوعه الأول كممثل للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، غارقاً في لقاءات إثر لقاءات.
حين وصل ترمب إلى الأمم المتحدة في 17 سبتمبر (أيلول) 2017 (صادف إنه يوم اثنين)، التقى رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، بنيامين نتنياهو، و(الرئيس) الفرنسي إيمانويل ماكرون، علماً بأن الأخير استدعى سفيره من واشنطن الأسبوع الماضي احتجاجاً على "أوكوس". وفي المقابل، لم يشتمل يوم الاثنين الخاص ببايدن، إلا على السفر إلى نيويورك ولقاء الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش.
وفي اليوم الذي خاطب فيه ترمب للمرة الأولى الجمعية العامة، التقى بغوتيريش، و(ووزير الخارجية) السلوفاكي (آنذاك) ميروسلاف لايتشاك (رئيس الجمعية العامة عامذاك)، إلى جانب (الشيخ تميم بن حمد آل ثاني)، أمير قطر، أحد حلفاء الولايات المتحدة الرئسيين في الشرق الأوسط. وفي اليوم التالي، اجتمع إلى ملك الأردن عبدالله (الثاني)، ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس، ورئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وإجمالاً، انتهت رحلة ترمب الأولى إلى الأمم المتحدة بعقد 11 اجتماعاً ثنائياً، إلى جانب عدد من الاستقبالات واللقاءات التي ضمته إلى قادة عالميين آخرين. في المقابل، شملت لقاءات بايدن في نيويورك هذا الأسبوع غوتيريش، وموريسون، والرئيس العراقي برهم صالح، إلى جانب لقاء ثنائي في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، عقده الرئيس بعد عودته إلى واشنطن الثلاثاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستطراداً، عارض مسؤولون في البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي فكرة قوامها إن برنامج بايدن هذا الأسبوع اتّسم بالخفة، مشيرين إلى استضافته قادة كوريا الجنوبية والهند واليابان، والأخيرتان عضوتان في "الحوار الأمني الرباعي" [إلى جانب الولايات المتحدة وأستراليا]، في البيت الأبيض الجمعة الماضي. في المقابل، حتى مع وصول قائدين في "الحوار الأمني الرباعي" إلى البيت الأبيض، يجعل الحضور الخفيف للرئيس الأميركي الـ46 في الجمعية العامة خلال الأسبوع الأول في ولايته، المطلعين يشعرون بقلق من أنه يضر بنفسه لمصلحة الجمهوريين عِبْرَ تعزيز الموقف الخاص بمنتقدي مدى ملاءمته المنصب الرئاسي.
وقد ذكر خبير في السياسة الخارجية يتشاور بانتظام مع مسؤولين في الإدارة، وطلب عدم ذكر اسمه كي يحمي علاقته مع البيت الأبيض، بأن لا منفعة كبيرة من مقارنة الأسبوع الأول الصاخب لترمب في الأمم المتحدة بالمشاركة الأولى لبايدن في الجمعية العامة، لأن "الرجل السابق" مجرد مبتدئ في السياسة الخارجية، بالمقارنة مع عضو مجلس الشيوخ ونائب الرئيس السابق.
وبحسب ذلك الخبير، "هو يعرف بالفعل مجموعة من الأطراف الفاعلة الرئيسة منذ كان نائباً للرئيس. ولا يحتاج جو بايدن إلى التجول وتعريف الجميع بنفسه والترحيب بالأمم المتحدة بأسرها في وقت لا تزال فيه جائحة [كورونا] مستعرة".
وكذلك ذكرت مصادر قريبة من البيت الأبيض إن خيار بايدن في اللقاءات التي عقدها هذا الأسبوع، يتوافق مع تركيز الإدارة على المحيطين الهندي والهادئ. والمقصود من لقاء الشريكين في "أوكوس" وقادة "الحوار الأمني الرباعي" إبراز الشراكات التي يأمل بايدن في أن تشكل وزناً مهماً مقابل الطموحات الصينية المتعاظمة.
في نفسٍ مغاير، رأى خبير استراتيجي سياسي يعمل مع مرشحين جمهوريين إلى الكونغرس، إن بايدن يعطي أولئك الجمهوريين ما يريدونه تماماً، بمعنى كونه قائداً أعلى يستطيعون تصويره كشخص لا يستطيع التعامل مع متطلبات منصبه، ويخاف من مشاركة الحضور مع أشخاص آخرين. وكذلك أشار إلى اضطراب برز أخيراً خلال لقاء بايدن في المكتب البيضاوي مع بوريس جونسون، إذ تلقى رئيس الوزراء البريطاني أسئلة الصحافة في حين لم يفعل الرئيس ذلك.
ووفق خلاصة من ذلك الخبير نفسه، "كلما سنحت لبايدن فرصة الحضور والمشاركة ولم يستغل الفرصة لأنه ومستشاريه يعتقدون بأن ذلك غير ضروري، سننتقده. وحتى لو استندت تصرفات بايدن إلى أسباب صالحة، سيدور الضجيج خلال السنة ونصف السنة المقبلين حول ضرورة وجود كونغرس فيه غالبية جمهورية يراقب الرجل العجوز المترنح الذي لا يستطيع أن يحتمل أكثر من اجتماع أو اثنين في اليوم. وقد يكون من قبيل العمل السياسي الجيد أن يحد من ظهوره في البداية كي يبدو مختلفاً عن ترمب، لكن ترمب لم يعد رئيساً منذ سنة تقريباً. بالتالي، إن البقاء بعيداً من الأضواء لم يعد يعطي بايدن مظهراً رئاسياً، ما يجعله يبدو كأنه غير قادر على تحمل متطلبات الرئاسة".
© The Independent