العنوان هو نفسه عنوان ذلك السفر الحكائي العربي الشرقي الكبير المعروف في الغرب بـ"الليالي العربية"، وشهرزاد نفسها حاضرة، وكذلك ذلك الملك الحزين، والتي تمضي لياليها وهي تحكي له حكايات لا ينقذها من سيفه غير قدرتها على حكيها. ولئن كانت الحكايات لا تعد ولا تحصى في العمل الأدبي الكبير، فكذلك حالها هنا في هذا الفيلم الذي نتحدث عنه، والذي لا يقل زمن عرض أجزائه الثلاثة عن سبع ساعات حتى حين يقدم مختصراً بعض الشيء. فمقابل حكايات "الليالي" هناك في الفيلم حكايات تبدأ ولا تنتهي. ومع ذلك فإن التشابه بين العملين يتوقف هنا.
جردة حساب سياسية
فالفيلم البرتغالي الذي عرض عالمياً بعد بداياته المهرجانية في مهرجان "كان" السينمائي الفرنسي في صيف عام 2015 ليس فيلماً عن تلك القطعة الرائعة من التراث العالمي، بل هو فيلم عن الخيبات السياسية والاجتماعية التي انتهى إليها الوضع في البرتغال بعد أربعين سنة من حكم ديمقراطي تلى واحداً من الانقلابات الأكثر ثورية وهدوءاً في التاريخ الأوروبي، والذي عرف بـ"ثورة القرنفل". ففي الذكرى الأربعين لتلك الثورة أراد المخرج ميغويل غوميش أن يرسم جردة حساب لما تحقق في بلده، فاختار أسلوب حكايات شهرزاد المتشعبة، والتي تولد واحدتها من الأخرى، لتقدم ألف صورة وصورة عما حدث ويحدث في الزمن الحديث، زمن الاقتصاد المعولم وانهيار القيم وإضرابات حمالي الموانئ وهجمات الدبابير على النحل والأحلام الضائعة. في النهاية كانت جردة الحساب فريدة من نوعها وقاسية في نبرتها وصارمة في إدانتها. ثم لأن الأسلوب شهرزادي منمق، جاء العمل كله خالياً من أي نوع من إثارة الضجر ـ مسلياً يكاد يكون وفي آن معاً، درساً في الفن السابع ودرساً في السياسة.
كيف وصلوا إلى هنا
تنطلق حكاية الفيلم من مخرج سينمائي من أبناء البرتغال أراد يوماً أن يصور الأوضاع البائسة التي آلت إليها أحلام وآمال كبيرة كانت تلك الثورة القرنفلية قد حملتها ولسان حاله سؤال فحواه: كيف حدث أن تحول كل شيء إلى بؤس وانهيار؟ وكان في منظوره أن يكتب حكايات مستوحاة من الأجوبة العديدة التي يمكنه العثور عليها. غير أن السينمائي إذ وجد نفسه ذات لحظة وبعد تفكير طويل عاجزاً على رسم الخطوط المنطقية لمشروعه، فضل أن يتخلى عن المهمة الرئيسة للحسناء شهرزاد إذ وجدها تفوقه مهارة في الحكي، ولكن كذلك تفوقه قدرة على أن تحكي ما حدث بهدوء ورزانة هي التي كان السينمائي يعرف كم أنها تتحلى بتلك الشجاعة التي مكنتها في "الليالي" من أن تمتع الملك بحكايتها متفادية إضجاره بما في الحكايات من بؤس لعلمها بأن ضجره سيعني نهايتها. وهكذا ولد هذا الفيلم، كما يروي السينمائي نفسه، ولد حين انطلقت شهرزاد وقد نظمت سردها في ثلاث مراحل من عبارة ستصبح لازمة للفيلم تقول: "أيها الملك السعيد، يحكى أنه في بلد حزين بين البلدان...".
ثلاثة عناوين لأحوال بلد
تحمل المرحلة الأولى من الفيلم عنوان "القلق" بينما أعطيت المرحلة الثانية عنوان "الآسف" والثالثة عنوان "المفتون" ومنذ البداية يمكننا أن نرى هنا في تراتبية هذا التقسيم نوعاً من الترياق ضد الفقدان النهائي للأمل، حتى ولو أن هذا لن يكون في انتظار المتفرج في نهاية المطاف. وفي هذا السياق من الواضح أن الفيلم في بنيته السردية الثلاثية يسير على منوال المسار الذي اتبعته شهرزاد لكي تفلت في النهاية من المصير البائس، ولو استجابة لتمني والدها الوزير الكبير الذي نعرف أنه في الحكاية الأصلية راهن على قدرة ابنته على الحكي كي تنقذ فتيات المملكة من المصير البائس، وسيكسب رهانه في النهاية. ولنقل هنا إن الفيلم لم يرد أصلاً أن يكون فيلماً يائساً، بل هو عمل يحاول أن يصور الأمور كما هي.
كل شيء يتهاوى أيها الملك السعيد!
وهكذا نرى "شهرزاد" وهي تحدث الملك منذ بداية المرحلة الأولى عما "يروى من أن في بلد حزين يحلم سكانه بالحيتان وجنيات البحر، حدث للبطالة أن انتشرت. وراحت الغابات تحترق حتى ليلاً رغم سقوط الأمطار في بعض الأماكن، بينما راح رجال ونساء يلقون بأنفسهم في لجة الماء في عز الشتاء، فيما الحكام تمتطون الجمال في انتظار جمع الضرائب كي يتمكنوا من دفع المال للسحرة الذين..."، وهنا إذ يحل الصباح تسكت شهرزاد عن الكلام المباح، ولكن بعد أن تكون الكاميرا قد التقطت مئات الصور والشرائط للأحوال المتدهورة في طول البلد وعرضه. غير أن شهرزاد، وما إن تحل المرحلة الثانية حتى تعود إلى حكيها من جديد راوية لمليكها هذه المرة كيف انتشر الخراب والانهيار وتحدث "الملك السعيد" عن ذلك "القاضي الذي سكت وانهمرت دموعه حين حل ليل ضياء الثلاثة أقمار" وكيف "أمضى هارباً من السجن أربعين يوماً والعسس يطاردونه فيما هو يحلم بفتيات الليل وطيور الحجل متذكراً زيتونة عتيقة وبقرة جريحة" واصلة إلى الحديث عن سكان عمارات الضواحي الذين ينقذون الببغاوات ويقضون حاجاتهم في المصاعد وهم محاطون بالموتى والأشباح ولكن كذلك بكلب لا يتوقف عن النباح و..." وهنا من جديد تسكت شهرزاد عن الكلام المباح وقد حل الصباح...
عندما هربت شهرزاد
وفي المرحلة الثالثة والأخيرة، "المفتون"، تطالعنا شهرزاد من جديد لكنها هذه المرة تبدي شكها في أن تتمكن من متابعة رواية حكاياتها المسلية للملك وقد راح يخامرها إحساس طاغ بأن ما تحكيه بات ثقيلاً وأنه لم يعد قادراً على أن يشكل خشبة خلاص لها أو لبنات جنسها. فلا يكون أمامها إزاء هذه الحيرة التي تستبد بها إلا أن تهرب من القصر لتذرع الملكة طولاً وعرضاً باحثة بنفسها عما قد يبدو ملذاً وفاتناً. وهنا يتدخل أبوها الوزير ضارباً لها موعداً في مكان تعلوه عجلة ضخمة. وهناك في هذا المكان لا تجد شهرزاد مهرباً من متابعة حكيها: "أيها الملك السعيد. ها نحن بعد أربعين عاماً من انتصار ثورة القرنفل، نعرف أن هناك في مدن اقصدير العتيقة المحيطة بلشبونة جماعة من رجال مسحورين قرروا بكل ما يعتريهم من شغف وحزم، أن يمضوا أيامهم في تعليم الطيور فن الغناء...". وعند هذه اللحظة ومن جديد يطلع الصباح فلا تجد شهرزاد مفراً من أن تسكت عن الكلام المباح، ولكن للمرة الأخيرة في هذا الفيلم، ومن دون أن نعرف كيف ستكون النهاية....
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
درس في السينما السياسية
ولكن هل نحن في حاجة حقيقية هنا لمعرفة كيف ستنتهي الحكاية؟ في الحقيقة أن ميغويل غوميش الذي كان حين حقق هذا الفيلم العابق بالطموح والغضب يقترب من عامه الخمسين ويريد أن يعود إلى ما عاشه وأبناء جيله في طفولتهم المبكرة حين أفاقوا ذات صباح على انتهاء ديكتاتورية سالازار وحلول نظام ديمقراطي تقدمي محله، كان قد بات منذ سنوات وريثاً شرعياً لسلفيه السينمائيين البرتغاليين الكبيرين مانويل دي أوليفيرا وخواو سيزار مونتيرو، غوميش هذا عرف من خلال استعراض كاميراه في لغة وثائقية حية ما يحدث في برتغال اليوم وكيف وصلت أحوال هذا البلد إلى هذا الدرك، لم يكن مصير شهرزاد ما يهمه، فهو بالنسبة إليه مصير مرسوم سلفاً ولا حيدة عنه. ما يهمه كان تقديم تلك الصور المتتالية التي تكشف ما حدث وربما لتكون قادرة على تقديم تفسير لهذا الذي حدث من دون التوغل في استنتاج ما الذي سوف يحدث بعد ذلك. فتلك ليست لا مهمة الفيلم ولا مهمة صانعه. هي بالتحديد مهمة الذين سيصل إليهم الفيلم فيربط لهم صورة ما حدث برباط محكم عبر صور مستقاة من الواقع الذي يعيشونه وربما سيتمكنون عبر الفيلم من ربطها إلى بعضها البعض، ما يجعل هذا الجانب من تلقي الفيلم مرتبطاً بفعل سياسي لطالما سعى سينمائيون كثر إلى تحقيقه من قبل لكنهم غاصوا في تحليلات وتوقعات أبعدت العمل عن قوة الفعل التي كانت متوخاة منه، فجاء أسلوب هذا السينمائي هنا في رصده الجردة الحسابية من طريق لغة "الليالي العربية" فاتحاً الطريق لنوع جديد من السينما السياسية، لنوع من تجديد سيكون له شأنه منذ ظهور هذا الفيلم...