فوز فيلم "الحدث" للمخرجة الفرنكو ـ لبنانية أودريه ديوان بـ"الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية السينمائي في دورته الراهنة، يُعد حدثاً بالغ الأهمية على مستويات عدة. أولاً، هو تكريس لسينما المؤلف الفرنسية التي لا توضع في تصرف مخرجيها ملايين الدولارات لفرض رؤيتهم الحميمية. ففي السنوات الأخيرة، الأفلام المكرمة في البندقية كانت من التي نالت موازنات كبيرة حتى لو بعضها محسوب على سينما المؤلف. ثانياً، هذا الفوز تأكيد لا يقبل الجدل بأن شيئاً ما يتغير في الوسط السينمائي، تحديداً في التعامل مع المرأة. فبعد "أوسكار" أفضل مخرجة للصينية كلويه زاو في هوليوود و"سعفة" المخرجة الفرنسية جولي دوكورنو في مهرجان "كان"، تختتم ديوان عاماً نسائياً بامتياز بحصولها على "أسد" البندقية. ثالثاً وأخيراً، يعيد الفيلم فتح النقاش حول مسألة الإجهاض التي لا تزال محل خلاف كبير بين محافظين وتقدميين. ومن اللافت أن كثيرين لم يغيروا موقفهم من الإجهاض؛ جزء من المجتمع لا يزال يقيم في الستينيات (زمن أحداث الفيلم) عندما يتعلق الأمر بموضوع كهذا.
بعد كل فوز لفيلم بالجائزة الكبرى في أي مهرجان سينمائي، يسارع البعض إلى إطلاق الأحكام واعتبار دوافع لجنة التحكيم سياسية ومنحازة أيديولوجياً أو جندرياً. الاتهامات باتت جاهزة ومعلّبة: فلان نالها لأسباب سياسية لأنه يتحدّث عن قضية اللجوء أو الإرهاب ويغازل الغرب، وفلانة فازت بها لأنها سيدة أو من الأقليات. قد تصح هذه التحليلات في بعض الأحيان، ولكن اتهام كل الجوائز بالتدليس والصواب السياسي الذي ينهش ما تبقى من الفن في العالم، تعميم سخيف. مقولة شارل جوزف "هناك نوعان من الحمقى: مَن لا يشك في أي شيء ومن يشك في كل شيء" تلقننا درساً في كيفية التعامل مع هذا الموقف، أي إنه لا يُمكن اعتبار كل شيء سياسة مثلما لا يمكن تبرئة كل شيء من السياسة. في حالة "الحدث" وقع خيار لجنة التحكيم على هذا الفيلم من بين عدد من الأفلام التي تجاوزه بعضها أهمية فنية، ومن غير المستبعد أن يكون الموضوع الذي يعالجه (من القضايا التي أثارت الجدل في الغرب أخيراً)، اضطلع بدور مهم في حسم خيار المحكمين.
أياً يكن، كل الجدل الذي يمكن أن يثيره الفيلم يجب ألا ينسينا تناوله نقدياً. فهذا واحد من أكثر الأعمال السينمائية ستسلط عليه الأضواء في الأشهر المقبلة، ومن واجبنا أن نعاينه عن كثب.
الإجهاض مباشرة
"الحدث" يحكي عن الإجهاض بشكل مباشر، لا بل هو سبب وجوده. لا يعطي أي طابع رومنطيقي للأحداث بل ينقلها بأمانة. في الجو الخانق بعض الشيء لفرنسا ما قبل ثورة 68، حين كان الإجهاض جرماً، نكتشف معاناة آن، طالبة أدب واعدة في الثالثة والعشرين من العمر، مع الجنين الذي في أحشائها، جنين غير مرغوب فيه، فهو نتيجة علاقة عابرة غير مخطط لها مسبقاً. بالنسبة إليها القرار نهائي: ستخضع لعملية إزالة الجنين مهما كلّف الأمر، ولو على حساب حياتها. ليس لأنها تكره الإنجاب، بل لأنه لم يحن الوقت لذلك بعد. تود تحقيق طموحاتها المهنية قبل أن ترزق بمولود. الأسلوب الذي تعتمده ديوان في نقل الواقع وتفاصيله، يذكّر في فجاجته الجميلة بموريس بيالا والأخوين داردين. ديوان تفضل أن تصدم على أن تغوي. قد يكون للإغواء تأثير لحظي، أما إحداث الصدمة فمفعوله يستمر إلى ما بعد الخروج من الصالة. والأهم من هذا كله أنها تتحدث عن الجسد، كاشفةً ما لا يدركه كثر منا عن الخطورة الجسدية والعذابات التي تعاني منها المرأة سواء وضعت مولودها أو قررت التخلي عنه.
هناك أفلام مهمة عدة عن الإجهاض بالسر في ظروف أخلاقية وصحية واجتماعية غير سليمة، منها الفيلم الشهير "4 أشهر، ثلاثة أسابيع ويومان" للروماني كريستيان مونجيو، إلا أن "الحدث" هو الأكثر قدرةً في الحديث عن الجسد واعتباره الفيصل الوحيد في الموضوع؛ هذا الجسد الذي سواء وهب الحياة أو تخلى عنها، فهو الوحيد الذي يطلق صرخة ألم. هذا التفهم للموضوع ومقاربته من هذه الزاوية بعيداً من الاعتبارات الأخلاقية القديمة، ما كان ممكناً لو كان صانع الفيلم رجلاً لم يشعر يوماً ماذا تعني الأمومة التي ترغب في تأجيل نفسها. صحيح أن فيلم الروماني مونجيو تحفة خالصة، لكنه لا يحفر في المجال المذكور آنفاً، لا يضع المعاناة الجسدية في صميم الفيلم، بالنحو الذي فعلته ديوان.
سينما النساء
بهذا المعنى، يحاول "الحدث" استرداد القضية إلى الجنس الذي ينتمي إليها: النساء. فالعديد من الأفلام التي تناولت الإجهاض أخرجها رجال، وهي، على أهميتها، لا تقول ما تقوله ديوان هنا، وبالقسوة والراديكالية والمشاعر المكبوتة التي يُقال فيها لقطة بعد لقطة. في نصّها، لا مجال للمهاترة أو استعراض الموضوع من كل الزوايا احتراماً للموضوعية. الفيلم منحاز، المخرجة منحازة، الممثلة كذلك، لا أحد يحاول إخفاء هذا. الكل منحاز إلى رأي المعنية الأولى بالموضوع: آن.
هذا فيلم "فيمينيست" (نسوي) صريح لا ينكر نزعته. حتى ديوان لا تنكرها، فقد قالت في أكثر من مناسبة إن النضال النسائي صاغ هويتها وجعل منها ما هي عليه اليوم. أناماريا فورتولوميه التي تلعب دور آن هي مرآة لكل الأفكار التي تبثها ديوان في فيلمها. تعكسها بخفتها وبقدرتها على احتواء الأحاسيس وبأدائها الملتبس الذي يبقى على الشفير دائماً. الكاميرا تبقى خلفها في معظم الأوقات، ما يجعلنا نتماهى مع وجهة نظرها. للكادر الضيق أيضاً كلامه: فهو يسهم في إشاعة مناخ الانغلاق الذي نشعر به. فورتولوميه بارعة في نقل شعور الخوف الذي لا يرحل عنها، ولا تقول عنه شيئاً بل هو حاضر بقوة ويصلنا شذرات منه. الخوف، هذا الخوف من كل شيء: من نفسها ومن الآخرين ومن ضغوط المجتمع ومن العيون التي تتعقبها وتقيمها بجملة أو اثنتين. آن خائفة ولكن لديها ما يكفي من جرأة وتصميم لتقفز فوق أسوار السجن الاجتماعي وتهرب إلى مصيرها. أما أمها (ساندرين بونير) التي تريدها ناجحة ومتفوقة في دراساتها، فهي دافع لها للمضي في الطريق التي تختارها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الحدث" فيلم نساء بنساء. هن الوحيدات اللواتي لديهن تأثير إيجابي في آن. من السيدة التي تقوم بعملية الإجهاض (ولو مقابل المال) إلى الأم، فرفيقة الشقّة لآن التي تساعدها في قطع حبل السرة، كلهن متعاونات وإن على طريقتهن أو بعد تردد أو خوف. الرجال في الفيلم ليسوا وحوشاً، بل هم مجرد عابرين. يجهلون ما يريدونه وكيف يتعاملون مع الوقائع التي يجدون أنفسهم أمامها. هناك شيء أرعن في شأنهم، وقد يكون هذا إحدى نقاط ضعف الفيلم.