على الرغم من مرور أسبوعين على انسحاب آخر جندي أميركي من أفغانستان، ونحو شهر على إحكام حركة "طالبان" المتشددة قبضتها على الدولة الواقعة في وسط آسيا، لا تزال التجاذبات الحزبية بالولايات المتحدة محتدمة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن "القضية الأفغانية"، مع تمسك كل طرف بروايته المحملة بالأساس مسؤولية المشاهد الفوضوية التي شهدها مطار كابول في عمليات الإجلاء طوال الفترة ما بين 14 و31 أغسطس (آب) الماضي.
وفيما يتمسك الجمهوريون بوصف الخروج الأميركي من أفغانستان بأنه "خسارة مذلة أمام طالبان"، يركز الديمقراطيون الممسكون بالسلطة في البيت الأبيض بإلقاء اللوم على الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (جمهوري)، وتحمله المسؤولية حين تفاوض مع حركة "طالبان" وتوصل معها إلى اتفاق للانسحاب في فبراير (شباط) 2020، وبين الروايتين جاءت أولى شهادات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمام مجلس النواب أمس حول أفغانستان، لتزيد من حدة التنافس الحزبي في واشنطن، لدرجة وصفتها تقارير أميركية بأنها "بداية مبكرة لمعركة رئاسيات 2024".
وطوال الأسابيع الأخيرة، واجهت إدارة الرئيس بايدن انتقادات واسعة في الداخل وبين الحلفاء، بشأن الطريقة المفاجئة للانسحاب الأميركي، والانهيار غير المتوقع لقوات الأمن الأفغانية التي دربتها القوات الأميركية وموّلتها لسنوات، أمام مقاتلي حركة "طالبان"، الذين سيطروا على كل الأراضي الأفغانية في أسابيع من دون مقاومة تذكر، ودخلوا العاصمة كابول في 15 أغسطس.
بلينكن يتمسك برواية الرئيس
في أول شهادة رسمية لمسؤول أميركي رفيع أمام الكونغرس، منذ انسحاب القوات الأميركية في أفغانستان، دافع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في "جلسة استماع عاصفة" أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب عن "الانسحاب الفوضوي" وحاول تحويل تركيز المشرعين الجمهوريين بعيداً عن مشاهد الأيام الأخيرة في كابول، والتمسك بإلقاء المسؤولية على إدارة الرئيس السابق ترمب، فيما تواصلت في المقابل المطالبات الجمهورية بـ"استقالته".
وقال بلينكن في شهادته، التي وصفها موقع "آكسيوس" الأميركي، بأنها "المواجهة الأشرس في مسيرة وزير خارجية بايدن"، إن ما تم خلال عمليات الإجلاء كان "جهداً بطولياً" من الدبلوماسيين والجيش والمخابرات الأميركيين، مكرراً حديث بايدن عن الإجراءات المتخذة بالقول "إذا لم تكفِ 20 سنة ومئات المليارات من الدولارات من الدعم والمعدات والتدريب، فلماذا ستؤدي سنة أخرى، أو خمس، أو عشر، إلى إحداث فرق؟".
ومع اشتباك الجمهوريين مع الوزير بلينكن حول مصير الحلفاء الأفغان "الذين تم التخلي عنهم" في كابول، واعتبار البعض الانسحاب بأنه "استسلام غير مشروط لطالبان"، يزيد من احتمالات التهديدات الإرهابية والمخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان مع عودة الحركة إلى السلطة، أكد الأخير أن "أي مسؤول عسكري أو استخباراتي أميركي لم يكن يعتقد أن أفغانستان ستسقط بهذه السرعة"، مشيراً في الوقت ذاته، إلى مفاوضات الرئيس السابق مع "طالبان" بشأن الانسحاب، من دون التفكير في التفاوض مرة أخرى بسبب تهديدات من الحركة بالعودة إلى قتل الأميركيين.
وقال بلينكن في هذا السياق "ما من دليل على أن البقاء لفترة أطول كان سيجعل قوات الأمن الأفغانية أو الحكومة الأفغانية أكثر قدرة على الصمود". مضيفاً "ورثنا موعداً نهائياً. ولم نرث خطة"، في إشارة إلى موافقة إدارة ترمب على سحب كل القوات الأميركية من أفغانستان بحلول الأول من مايو (أيار) الماضي.
ومع تعهد بلينكن بمواصلة واشنطن دعم المساعدات الإنسانية لأفغانستان عبر المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة وليس "طالبان"، أعاد بشأن احتمالات اعتراف الولايات المتحدة بالحكومة التي تقودها "طالبان"، قائلاً "إذا كانوا يريدون الحصول على أي شرعية، أو أي دعم، فإن ذلك يبدأ بحرية السفر"، وتابع، "التزمت طالبان منع الجماعات الإرهابية من تأسيس مواقع لها في أفغانستان"، وأضاف "هذا لا يعني أننا سنعتمد عليهم. سنظل يقظين في مراقبة التهديدات".
وفيما كان الوزير بايدن يدلي بشهادته، كان لافتاً الجدل المحتدم بين النواب الجمهوريين الذين اعتبر بعضهم بأن سيطرة "طالبان" على الحكم في أفغانستان تعني أن "الولايات المتحدة باتت تحت رحمة حكم إرهابي، فيما تمسك الديمقراطيون بأن يدي الرئيس بايدن كانتا مقيدتين عندما تولى منصبه، وأن طالبان كانت ستهاجم القوات الأميركية لو تغير الموعد النهائي في أبريل (نيسان)". ليرد بلينكن قائلاً، "عند توليه منصبه، واجه بايدن على الفور الاختيار بين إنهاء الحرب أو تصعيدها". وأضاف أن "طالبان" "أوضحت بشدة أننا إذا تجاوزنا هذا الموعد النهائي"، فسوف تستأنف هجماتها.
"الكثير لا يزال مجهولاً"
في الأثناء وعلى وقع التجاذب الحزبي في واشنطن، وقبيل شهادة بلينكن أمام مجلس النواب التي تبعتها شهادة أخرى أمام مجلس الشيوخ، اعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" ، أن "الكثير لا يزال مجهولاً بشأن التطورات الأخيرة في أفغانستان"، متهمة إدارة بايدن بأنها تعتم على "كارثة في أفغانستان".
وكتب هيو هيويت، في الصحيفة، أن "الرئيس بايدن ووزير خارجيته لا يتمتعان بالمصداقية، وأن هناك أسئلة من دون إجابات، لا سيما حول أعداد الأميركيين الذين لا يزالون في أفغانستان"، ما يمثل "ورطة كبيرة لواشنطن قد تعيد مشاهد أزمة الرهائن الأميركيين التي حدثت مع الثورة الإيرانية عام 1979".
واستند هويت إلى عدد من التصريحات المتناقضة على مدى الأسبوع الأخير لعدد من المسؤولين الأميركيين، حول أعداد الأميركيين الباقين في أفغانستان، قائلاً، "إن رئيس موظفي البيت الأبيض رون كلاين قال لشبكة (سي أن أن)، الأسبوع الماضي أن هناك نحو 100 أميركي لا يزالون في أفغانستان"، ليرد السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بالقول، "إن هناك المئات ما زالوا عالقين"، بينما قالت سوزانا جورج مديرة مكتب "واشنطن بوست" في أفغانستان وباكستان، صباح اليوم التالي، "إنه ببساطة لا توجد طريقة لمعرفة ذلك، لأن بعض حاملي جوازات السفر مقطوعون في معظم أنحاء البلاد وغير متصلين بأي شخص".
وكرر الجمهوريون في أكثر من مناسبة مطالبة الإدارة الأميركية بالكشف عن عدد الأميركيين الباقين في أفغانستان أو الحلفاء من المواطنين الأفغان، والأسبوع الماضي، نقلت مجلة "بوليتيكو"، رسالة موقعة من 26 سيناتوراً جمهورياً في الكونغرس، طالبوا فيها الرئيس بايدن، بكشف العدد والمعلومات عن الأميركيين وحاملي البطاقة الخضراء والمتقدمين للحصول على تأشيرة هجرة خاصة، الذين بقوا في أفغانستان، بعد انتهاء عمليات الإجلاء في 31 أغسطس الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجاء في الرسالة التي جاءت بقيادة السيناتور الجمهوري توم كوتون أن "أولويتنا العاجلة هي سلامة ورفاهية المواطنين الأميركيين والمقيمين الدائمين والحلفاء الذين تُركوا في أفغانستان. كما نشعر بالقلق إزاء التقارير التي تفيد بأنه تم أيضاً إجلاء الأفراد غير المؤهلين، بمن في ذلك الأفغان المرتبطون بمنظمات إرهابية أو المجرمون الخطرون والعنيفون، إلى جانب عائلات اللاجئين الأبرياء"، مضيفين أن "الموقعين على هذه الرسالة قد يكون لديهم آراء مختلفة حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة الحفاظ على وجود عسكري في أفغانستان، لكننا نتفق جميعاً على أن الأسلوب التعسفي وسوء التخطيط الذي من خلاله انسحبت القوات من أفغانستان سبب هذه الأزمة".
وفي شهادته أمام مجلس النواب، قال بلينكن إنه "اعتباراً من الأسبوع الماضي، كان هناك نحو 100 مواطن أميركي في أفغانستان قالوا لنا إنهم يرغبون في مغادرة البلاد". وأشار إلى أن الولايات المتحدة "عرضت الأسبوع الماضي إخلاء 60 منهم، وقبل 30 فقط". ولم يعط أي رقم عن عدد حلفاء الولايات المتحدة الذين ما زالوا في البلاد.
قلق من "أفغانستان إرهابية"
بحسب ما نقله مع "آكسيوس" الأميركي، فإن الجمهوريين يرون في جلسات استماع وزير الخارجية بلينكن فرصتهم الأولى لمواجهة المسؤول الدبلوماسي الأبرز في إدارة بايدن، حول الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، مشيراً إلى "أن معركة الجمهوريين تتركز في معرفة عدد الأميركيين والحلفاء الذين لا يزالون عالقين في أفغانستان بعد عمليات الإجلاء والعقبات المستمرة، وكيفية تخطيط الإدارة الحالية لإخراجهم".
ووفق ما ذكر "آكسيوس"، فإن بعض الانتقادات الجمهورية التي يتمسك بها مشرعو الحزب هي خطة الإدارة الحالية للاعتراف بحكومة تقودها "طالبان"، عُين فيها بعض الأشخاص المرتبطين بتنظيم "القاعدة"، بينهم سراج الدين حقاني، القائم بأعمال وزير الداخلية في حكومة طالبان، وعلاقات الحركة بالشبكات التي تصنفها الولايات المتحدة "إرهابية"، والاعتماد على "طالبان" في التعاون الأمني.
وقبل نحو أسبوع، كان لافتاً تصريح السيناتور الجمهوري لينسي غراهام، أن القوات الأميركية ستعود إلى أفغانستان مرة أخرى، بعد انسحابها العسكري، بسبب "التهديد الإرهابي في غياب الولايات المتحدة"، على حد تعبيره، معرباً عن اعتقاده بأن "طالبان ستوفر ملاذاً آمناً للقاعدة، وأن الحركة لديها رؤية للعالم لا تتوافق مع العصر الحديث"، وهو الأمر الذي يرفضه الحزب الديمقراطي، وكرره الرئيس بايدن قائلاً في الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر (أيلول) إنه "لا يمكن للولايات المتحدة غزو كل بلد توجد فيه القاعدة"، مشدداً على أن الأميركيين أنجزوا مهمتهم عبر قتل أسامة بن لادن مؤسس "القاعدة" وتحييد الشبكة في قاعدتها الأفغانية.
وبحسب مراقبين يتنازع رأيان السياسيين الأميركيين بشأن التعامل مع حكومة تقودها "طالبان"، إذ يرى البعض "أن هناك حاجة إلى التمهل وعدم حسم خيار التعامل مع حكام كابول الجدد"، فيما يرى آخرون "أن هناك مخاوف من ترك أفغانستان مما قد يقود إلى توسع نفوذ خصوم واشنطن الرئيسيين (روسيا والصين وإيران) في المنطقة".