في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) 2019، أطلق الحوثيون طائرة مسيرة على تجمع عسكري في قاعدة العند الشهيرة جنوب اليمن، راح ضحيتها عدد من العسكريين. وحينها، أرسلت الحكومة المعترف بها دولياً بيانات إدانة وتنديد بالعملية وتوعدت بالرد القاسي على مرتكبيها المعروفين... ويوم الأحد الماضي، في 28 أغسطس (آب)، كرر الحوثيون العملية بالأسلوب والوسيلة أنفسهما، بسلاحهم المفضل، في الموقع نفسه وتمكنوا للأسف من إحداث أثر أكثر دموية من العملية السابقة، مخلفين ما يزيد على 30 قتيلاً وعشرات الجرحى.
لم تتأخر الحكومة عن استخدام سلاحها الوحيد الذي أتقنته خلال سنوات الحرب، فلم تتوانَ عن إصدار بيانات تسابقت مؤسساتها كافة في التنافس لرفع لهجتها المنددة والمهددة والمتوعدة، وفي الواقع فذلك هو أقصى وأقسى ما تمتلكه وتعبير فاضح عن عجزها في مواجهة المخاطر التي تتعرض لها القوات التابعة لها.
كان من المفترض منطقياً أن حادثة العند الأولى قد أعطت القيادات العسكرية والسياسية درساً تتعلم منه الأخطاء التي تتكرر، ويذهب ضحيتها المقاتلون الذين يعيشون ظروفاً غاية في الصعوبة معنوياً ومادياً وتسليحاً، إذ من غير المعقول استمرار تقصير الحكومة في أداء واجبها الأخلاقي والوطني وإهمال رعايتهم والإنفاق السخي عليهم. وعلى الرغم من ذلك، يتشبث الجنود بحمل السلاح والبقاء في مواقعهم وخنادقهم في الصفوف الأولى، بينما يعيش أغلب قادتهم مع أسرهم بعيدين عنهم في أمان وفي بحبوحة من العيش.
إنه لمن من السذاجة توصيف العملية بالغادرة كما لو كان من المتوقع إبلاغ القيادات العسكرية والمدنية الشرعية التي استرخى كثير من ممثليها بمواعيد محددة لأي هجوم قد تتعرض له القوات المسلحة. والقول بهذا هو محض تخلٍّ عن المسؤولية وتبرير لتقصير مزمن، ولا يجوز تصور أنه مقنع لأحد غير الذين تعودوا تبرير كل فشل حدث في الماضي، ولا بد أن يتجدد مستقبلاً ما لم يُجرَ تحقيق عسكري حقيقي وشفاف يعتمده المواطنون ويركنون إلى صدقيته، ومعاقبة كل من أهمل وقصر.
ما يجب الوقوف أمامه بجدية ومسؤولية هو الإفصاح عن مكامن الخلل الذي أفضى إلى أن تصبح الحرب الدائرة مجرد إحصاء للقتلى اليمنيين من الطرفين، التي لا يعرف أحد حتى هذه اللحظة الأرقام الحقيقية لضحاياها من عسكريين ومدنيين ولا حجم الدمار الذي تسببت فيه، وأصبح القول بالقدرة على حسمها لصالح أي من أطرافها هو استدعاء متعمد للمزيد من الدماء والدمار.
لقد مرت سنوات منذ بدايات الحرب ولا بد أن الجميع قد اقتنع بأنها قد بلغت مداها الذي لن تتغير خطوطه الجغرافية على الأرض مهما ارتفعت الكلفة البشرية، التي أصبح واضحاً أن القيادات في الطرفين غير مهتمة بها، طالما بقيت هي في مأمن من آثارها. وهو أمر يبرهن على عدم اكتراث لمعاناة المواطنين ومآسيهم وحجم الكارثة التي يعيشونها في حياتهم كل يوم، بعد تدمير وتهالك البنى التحتية وانتشار الجريمة ونهب حقوق الناس.
إن الضحايا الذين قضوا في حادثة العند، السبت الماضي، هم في واقع الأمر نتيجة حتمية لعدم اكتراث القيادات اليمنية، التي لم تتمكن من الارتفاع بمنسوبها الأخلاقي والإنساني إلى الحد الذي يوجب عليها البحث في الحلول العملية، للدخول في مسار سلمي يؤدي إلى صيغة شراكة وطنية، تضمن المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والقبول بالآخر بكل قناعاته السياسية والمذهبية. وما عدا ذلك، لن يكون ممكناً لهذا البلد استعادة عافيته وترميم نسيجه الوطني الذي هتكته قيادات لم يعد اليمن ودماء أبنائه ودماره يمثل لها أكثر من مصدر للإثراء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الحرب الدامية الدائرة اليوم وإصرار كل الأطراف على سلامة نهجها واقتناعها بأنها تمثل كل الوطن ليست أكثر من غطاء لصراع على السلطة كما يتصورونها. ومن السخرية أن الجميع يتحدث عن الالتزام بمخرجات مؤتمر الحوار الوطني والدستور القائم، في حين أن الحقيقة تدل على أنهم ينتهكون كل حروفها، فلا الدستور الذي اختزن المخرجات تم إقراره ولا الدستور القائم جرى احترامه والعمل به.
صار منظر الدماء ودمار مستقبل الأجيال شاهداً على الحرب، ولما كانت كل قيادات الأطراف المتحاربة غير قادرة على تحقيق مبتغاها بالقوة والدم والدمار، فمن العقل والإنسانية، أو ما تبقى منهما، أن تتوقف لمراجعة داخلية لربما أوصلتها إلى اقتناع بأن لا طريق أمامها إلا الذهاب إلى حوار تكون القوة الغاشمة غائبة عنه ويحضر الضمير الوطني المدفون.
إن الحصار الطويل على مدينة تعز والحديدة ومأرب وإغلاق مطار صنعاء والقيود المفروضة على استخدام ميناء الحديدة، كلها مجتمعة عناوين كبيرة لمدى الهبوط الإنساني، ولكن الواقع المحزن والأليم هو أن المواطن وحده من يتحمل كل الأثمان ويعاني الابتزاز السياسي الذي يمارس ضده من الجميع.
بعد أيام، سيبدأ المبعوث الأممي الجديد، هانز غروندبرغ، مهام عمله خلفاً لمارتن غريفيث. واليقين أنه لا يمتلك عصاً سحرية ولا قوة لفرض حلول على أي طرف لتقديم تنازلات، وحتماً سيواجه المعضلات والعراقيل نفسها، وانعدام الرغبة في التوصل إلى منطق يمني يضع مقاربة وطنية لا يتمترس المتحاربون خلف ما يتصورونه طريق النصر، لأن الواقع الحالي يؤكد عدم إمكانية حدوثه من دون تغيير على الأرض يسمح لأحد الأطراف بأن يحسم المعركة لتحقيق الهدف الذي يبتغيه.
مرة أخرى، فعلى الرغم من أنني أتمنى أن تكون حادثة العند الثانية الأخيرة في مسلسل مسيرة الدم، التي صبغت كل أرض اليمن، غير أن الأهم من التمنيات هو أن على اليمنيين فهم أن العالم صار يتعامل معهم كعبء ثقيل يريد التخلص منه وسيهمله قريباً.