إلى أين يقود الصراع الأميركي الإيراني؟
سؤال يشغل المنطقة والعالم، وتتعدد الأجوبة الرسمية وغير الرسمية عنه. لكن الجواب الحاسم لا يزال في الغيب. فاللعب الخطير على حافة الهاوية ليس كل شيء في اللعبة. والخروج الأميركي من الاتفاق النووي بقرار من الرئيس دونالد ترمب ليس سوى واحد من ملفات الصراع. حتى الحسابات الجيوسياسية والاستراتيجية، التي دفعت الرئيس باراك أوباما إلى إعطاء الأولوية للتوصل إلى الاتفاق، فإنها لم تحجب ما كان ولا يزال يقلق العواصم الإقليمية والدولية في سياسات طهران.
ذلك أن ما يحكم الصراع، من بين عوامل عدة، هو إدراك "حدود القوة". لا فقط القوة العسكرية الخشنة، سواء استُخدمت مباشرة أو بالواسطة، بل القوة الناعمة أيضاً. والسؤال هو: إلى أي حد تدرك واشنطن أنها لم تعد قادرة على إعادة تشكيل ما سُمي "الشرق الأوسط الأميركي" بالقوة؟ وما الذي تعلمته من غزو أفغانستان والعراق ودفعته من أثمان؟ إلى أي درجة تدرك طهران أن ما سماه المرشد الأعلى علي خامنئي "الشرق الأوسط الإسلامي" بقيادتها مشروع يصطدم بالتضاريس التاريخية والسياسية والاجتماعية في الشرق وبالحسابات الاستراتيجية في الغرب؟ وهل يكفي أن يتقدم المشروع جزئياً في العراق وسوريا ولبنان واليمن من خلال إنشاء ميليشيات أيديولوجية وتمويلها وتسليحها وتوظيفها وضمان نوع من الغطاء الرسمي لها في البلدان الأربعة؟
المعادلة التي وضعها خامنئي في الصراع هي "لا حرب ولا مفاوضات". والمعادلة الأميركية المقابلة هي "لا حرب، ولا تخفيف للعقوبات، ولا إغلاق لباب التفاوض". الحرب المستبعدة هي بالطبع الحرب المباشرة الشاملة، لا "الحرب غير المتماثلة" التي يهدد بها قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، ولا الحرب السياسية والاقتصادية التي تشنها أميركا. والمفاوضات المطلوبة أميركياً والمرفوضة إيرانياً هي إعادة التفاوض على الملف النووي وفتح التفاوض على ملفَّيْ الصواريخ الباليستية والسلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة.
وليس أصعب من فتح باب التفاوض سوى مواضيع التفاوض. فالصواريخ الباليستية التي تريد أميركا وأوروبا ودول المنطقة فرض قيود على تطويرها، هي في نظر خامنئي "قوة الدفاع" عن بلاده. والنفوذ الإقليمي الإيراني المراد "كبحه" هو عند الولي الفقيه "العمق الاستراتيجي" لإيران. وما تسميه واشنطن "تغيير السلوك" تترجمه طهران إلى "تغيير النظام". فالعداء لأميركا هو من الثوابت و"الأسس" في الجمهورية الإسلامية، كما قال مؤسسها الإمام الخميني. وإيران من دون نفوذها ومشروعها في المنطقة هي مجرد دولة عادية يرفض النظام الاكتفاء بها.
والسؤال هو: هل يمكن الاستمرار إلى ما لا نهاية في رفض التفاوض الذي يصفه خامنئي بأنه "سم زعاف"؟ ألم يُضطر الخميني إلى ما سماه "شرب السم" عبر التسليم بوقف الحرب مع العراق؟ ألم تبدأ إيران الخاضعة للعقوبات مفاوضات سرية مع أميركا في سلطنة عُمان، ثم علنية في أكثر من مكان؟ وكيف تخرج في هذه الأيام من "أصعب الظروف" باعتراف الرئيس حسن روحاني، الذي تحدث عن "حرب غير مسبوقة في تاريخ ثورتنا الإسلامية"؟ لا أحد يجهل لماذا يبالغ المسؤولون العسكريون في الاستعداد "للرد المدمر" على أميركا إذا شنت حرباً على إيران. فهم يعرفون أنها لن تقوم بهجوم شامل مباشر، وهي ليست محشورة لكي تهاجم إيران عسكرياً، إذ بدأت حرباً أقسى عبر العقوبات ومنع تصدير النفط وبالتالي الانتقال من الضغط إلى الخنق عبر سياسة "الضرب على الجيوب". والمنطق البسيط يقول إن طهران هي المحشورة للرد على الحرب الاقتصادية الأميركية. والخيار أمامها محدد: "حرب عصابات" عبر وكلائها، تؤذي حلفاء أميركا، لكنها تتوقف عند خط أحمر هو بقاء العمليات الأمنية دون مستوى يحرج واشنطن ويدفعها إلى تصعيد لا أحد يعرف أين يتوقف. والرهان على ما يُسمى "الصبر الاستراتيجي"، وهو عادة كثير من إيران، وقليل في أميركا. لا بل إن القائد الجديد المتشدد للحرس الثوري اللواء حسين سلامي، الذي كان نائباً للقائد السابق، يقول إن "إيران تعيش قمة المواجهة مع العدو".
ومن النظريات الشائعة أن إدارة ترمب تنتظر الإيرانيين على الكوع، في تحسب لأن يتجاوزوا الخطوط الحمر في حرب العصابات، بحيث تجد العذر الملموس لإقناع الرأي العام الأميركي بالحاجة إلى توجيه ضربة كبيرة لإيران أو لوكلائها. والمفارقة أن الذين كانوا في النصف الأول من ولاية ترمب يراهنون على الجنرالات ماتيس وكيلي وماكماستر لـ "ضبط" تهور الرئيس، ويراهنون حالياً على تردد ترمب وحرصه على سحب القوات الأميركية بدل إرسالها إلى المنطقة لـ "ضبط" اندفاعات جون بولتون ومايك بومبيو.
ولا مجال لتجاهل القدرة الإيرانية على الإيذاء وزعزعة الاستقرار من خلال الشبكات المدربة التابعة لها. فهي كانت دائماً تمتنع عن التورط المباشر في الحرب حتى إلى جانب حزب الله في الحروب مع إسرائيل. لكن من الوهم الاستخفاف بقدرة أميركا على التدمير، واستسهال المبارزة معها بأسلحة البر والبحر والجو التي تتفوق بها على كل البلدان. فكيف إذا صحّ تخوف العقلاء من أن يقود جنون العظمة إلى القيام بعمليات على طريقة بيرل هاربر وخليج تونكين ولو على نطاق أصغر؟ وكيف إذا كانت القوى العظمى تدرك حدود قوتها، والقوى الإقليمية تتصور أنها قادرة على الإمساك بكل الخيوط، وإعادة إحياء إمبراطوريات من قبور التاريخ؟
المقدمات التخريبية ظهرت في التفجيرات التي حدثت في الإمارات والسعودية. واللايقين هو الطريق إلى النهايات.