أعاد الفنان أدهم سفر جمهور دار الأوبرا السورية إلى أجواء السينما الصامتة في عرضه الأخير "سينماتك". التجربة التي خاضها المخرج السوري عادت بالفعل إلى ما يسمى "الحقبة الصامتة" من تاريخ الفن السابع، حين كان يتم عرض الأفلام بمصاحبة عزف حي تقوم به أوركسترا صغيرة، وذلك حتى سنة 1925. العام الذي شهد انكفاءً عن مشاهدة الأفلام الصامتة في صالات السينما الأميركية، بسبب الجماهيرية التي حققها الراديو آنذاك، إذ فضّل الجمهور وقتها الاستماع على المشاهدة، وضجر من تلك الفرق الصغيرة التي كانت تضيف الموسيقى والمؤثرات الصوتية بشكل حي لعروض الأفلام من مثل "البحث عن الذهب" لشارلي شابلن، أو"شبح الأوبرا" لروبرت جوليان.
اتكأت هذه التجربة على تسعة من خبراء الصوت والضوء والشاشات الذكية من متخرجي قسم التقنيات (المعهد العالي للفنون المسرحية)، إذ صاغ هؤلاء مناخاً جديداً لتوليف بصري متعدد الوسائط. فعلى الرغم من الشكل المتحفي الذي اختاروه لعرضهم، إلا أن المشاهد المسحوبة الصوت التي قاموا بانتقائها من روائع السينما العالمية، أوجدت حلولاً فنية مغايرة مع الفرقة السيمفونية الوطنية، وبأداء لأهم مؤلفي موسيقى الأفلام في العالم. فعلى امتداد قرابة الساعة من الزمن استمع الجمهور إلى مقاطع من موسيقى فيلم "العرّاب" لمؤلفها نينو روتا، وموسيقى فيلم "تايتانيك" لمؤلفها جيمس هورنر، جنباً إلى جنب مع موسيقى فيلم "حرب النجوم" لمؤلفها جون تاونر وليامز، إضافة إلى موسيقى فيلم "علاء الدين" لمؤلفها ألان مينيكين، وموسيقى مسلسل "لعبة العروش" لمؤلفها رامين جوادي.
مشاهد الأفلام تم تظهيرها على ثلاث شاشات ضخمة احتلت عمق القاعة الرئيسة لدار الأوبرا، إضافة إلى أجهزة إضاءة ذكية أسهمت هي الأخرى في تنويع المناخات اللونية، وتوزيع أحزمة ساطعة من الضوء تبعاً لتسلسل المشهدية السينمائية التي صاحبها ثلاثون عازفاً وعازفة، لبثوا بدورهم في حفرة الأوركسترا، مؤدين تحف موسيقى الأفلام في تناغم واضح بين جوقة الآلات الوترية والنفخية والإيقاعية. قاد المايسترو ميساك باغبودوريان الفرقة السيمفونية الوطنية، ونجح في توحيد الإيقاع وضبطه، منسقاً جهد عازفيه ضمن التوليفة البصرية للعرض التي جعلت أماكن جلوس موسيقييه ضمن شاشات العرض.
التأثيرات السمعية والبصرية
واعتمد مخرج "سينماتك" على تناوب التأثيرات السمعية والبصرية للإيحاء بأحداث وذرى درامية انتقاها من الأفلام الأربعة والمسلسل، فبدلاً من صوت حوارات أبطالها في نسخها الأصلية، استعاض سفر عنها بمقاطع عزفتها الفرقة السيمفونية بشكل مباشر، ما تطلب مونتاجاً مختلفاً، وتحريراً لدمج مشاهد رئيسة من هذه الأفلام مع مشاهد من المسلسل بما يخدم صيغة العرض، ويلبي طموحات الرسم بالضوء بالتوازي مع تدفق المناظر المسرحية المرسومة بالضوء في جوار المشاهد السينمائية.
هكذا برز مارد المصباح في فيلم الكوميديا الخيالية "علاء الدين" جنباً إلى جنب، مع مشهد غرق بطلي الفيلم الملحمي الرومانسي "تايتانيك"، بينما ظهر مارلون براندو بطل فيلم الجريمة "العراب" وكأنه في مواجهة مع شخصيات الفنتازيا الخيالية في "لعبة العروش". في حين أسهمت المشاهد المأخوذة من رائعة جورج لوكاس "حرب النجوم" في تقديم مناخ فانتازي لأوبرا فضاء ملحمية، وظفها العرض السوري في إطار استعراض بصري لافت، لتكون إضاءة الـ "OUT DOOR" التي تستخدم عادةً في حفلات أوعروض الهواء الطلق في عرض "سينماتك"، ولكن دون التخلي عن الدمج بين فضاء الصالة وفضاء الشاشة.
واستغل العرض طريقة محاكاة السينما في بداياتها الصامتة للمسرح المصور، وأصول المشاهدة المسرحية، حيث تم تصوير عديد من مسرحيات الأديبين الفرنسيين جان راسين، وبيار كورني تبعاً لهذا الفهم الذي كان سائداً وقتذاك، وليحافظ هذا النوع من السينما المستقاة من المسرح مدة خمسة عشر عاماً على أسلوبه في تصوير المناظر السينمائية بلقطة عامة ومن موقع ثابت، وزاوية نظر لا تتغير، ما ترك أثراً واضحاً للمسرح في فن السينما التليد آنذاك، وعدم معرفة التمييز بين الشرط الفني لكل منهما.
ومع أن المرئيات في السينما أكثر تعقيداً من المسرح تبعاً لرسم حركة الممثلين، وتغيير زوايا الكاميرا، وحجم اللقطات، إلا أن العرض استلهم إطار الصورة المسرحية في أفلام السينما الصامتة، مطلقاً العنان لتكوين الصور في المشاهد التي استعارها من أفلام حديثة الإنتاج نسبياً. ومن ثم وضعها ضمن علاقات مشهدية تخضع للشرط السينمائي القديم، وأهمها كان في العرض هي وجهة النظر، أي المكان أو الوضع الذي منه تتم رؤية الأحداث، لكون الوجهة تحدد وتؤطر الرؤية موضوعية كانت أم ذاتية.
عرض بصري سبّاق
في المقابل حاول العرض إتاحة الفرصة للمشاهدة العامة، وذلك عبر نقله في بث مباشر على حساب دار الأوبرا على موقع "فيسبوك"، بحيث تطلب ذلك عمليات مونتاج ومكساج مباشرة للعرض، الذي يعد من أول عروض الأداء السمعية البصرية في سوريا. فهذه التجارب لا تجد الدعم الكافي من المؤسسات المعنية، ويُنظر إليها على أنها عبارة عن فن هجين غير متجانس، من الصور والفيديو والضوء والموسيقى، لا سيما أنها تفتقر إلى فنون الأداء التقليدية من تمثيل ورقص وغناء، لصالح تقديم محتوى بصري رقمي، يقول عنه القائمون على العرض بأنه أصبح يشكّل اليوم ما يشبه نواة لتجارب شابة ترفض الانصياع لصياغات مسرح الأمس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على مستوى آخر استنهض العرض قدرات مسرح الأوبرا من تقنيات توفرها عادةً دور الأوبرا في العالم، لكنها في أوبرا دمشق ظلت طي مستودعاتها بفعل المقترحات الفنية السائدة في مجمل العروض التي تقدم عليها، لا سيما من منصات متحركة، وحوامل معدنية ضخمة لكشافات الإضاءة، إضافةً لشاشات الليد التي استغلها القائمون على "سينماتك" لتظهير ما يشبه مكتبة أفلام متعددة الاستعمالات. فهذه التجربة استعارت زمن ما قبل الفيلم الناطق، إذ انتظرت السينما 32 سنة ليتكلم فيها الأشخاص، وتُسمع فيها أصوات الطبيعة، وتصدح فيها الموسيقى. ومما لاشك فيه أن إضافة الصوت إلى شريط الصورة كان قفزة نوعية من الناحية التقنية والفنية في تاريخ فن السينما، مما أفسح المجال ضمن هذه الفرضية اللافتة للعرض لتقليد زمن سينمائي بلا أصوات.
هذا كله أتى هنا كنوع من اعتماد البصري للمشهدي، وخلط الجدار الرابع للفرجة بأبعاد الكاميرا وزوايا التصوير، وتقنية المونتاج الفوري، من غير التقليل من مسألة تحقيق "بيرفورمانس" بأدوات معاصرة، واللجوء لمساحات شيقة من بناء سينوغرافيا أكثر حداثة وجدة. وهذا ما جعل مخرج العرض يصر على تمكين التقنية في بنية عرضه، منقلباً على انتقادات شائعة عن مثل هذه التجارب، حيث الجرأة الفنية محكومة هنا بعديد من حسابات متزمتة إزاء تمويل عروض الأداء الموسيقية البصرية، والتقليل من شعبيتها عند المتلقي. وهذا ما ترك فسحة عالية للتجريب عند صناع "سينماتك"، لا سيما على صعيد إبعاد الصيغ الزركشية التزيينية للضوء، وجعله عنصراً درامياً على الخشبة بمساندة الموسيقى.