Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يحدث أن نختار" رواية عن تونس السبعينيات بصخبها السياسي  

بطلة سعدية بن سالم تتعدد أقنعتها عقاباً على ذنب موهوم

الروائية التونسية سعدية بن سلام (دار ديار - تونس)

دأب الناقد باختين على التأكيد في كل أعماله النقدية، أن الرواية فن غير مكتمل، ومازال، على الرغم مما أُنجز في حقله من أعمال باهرة، في حال تطور واكتمال، ولم تستبّ بعدُ، مقوماته الفنية أو تستقر شروطه الأدبية لأنه يبتكرها باستمرار، أو يسترفدها من مجالات معرفية شتى. لهذا كان فناً منفتحاً على الدوام يستلهم كل الفنون على اختلافها وتنوعها. ويرى باختين في هذا الانفتاح غير المحدود للرواية غنى كبيراً وطاقات عظيمة تجعلها في حيوية مستمرة ونشاط متواصل وشباب دائم.

وكثيراً ما يعمد باختين إلى مقارنة الرواية مع الملحمة التي قالت (في نظره) كل شيء، واكتملت شروطها الفنية، وباتت بعد قرون من التداول عاجزة عن الكلام. ولهذا رفض باختين رأي هيجل الذي اعتبر الرواية متحدرة من الملحمة، وذهب إلى القول، إن الرواية منبثقة من الكرنفالات والاحتفالات الشعبية.

استعدت آراء باختين الجريئة وأنا أقرأ رواية سعدية بن سالم الجديدة "يحدث أن نختار"، الصادرة عن دار "ديار للنشر/ تونس". وهي الرواية التي تشربت فنوناً عديدة، وجعلتها أصلاً مكيناً من أصولها الأولى.

في هذه الرواية ترتد سعدية من جديد إلى الماضي القريب لتحفر في  طبقاته المتراكمة بتأن وصبر كبيرين، لعلها تظفر في الختام بإجابة محتملة عن أسئلتها الكثيرة. كل فصول الرواية تؤكد أن الفترة التي تدور فيها الأحداث هي السبعينيات، وهي فترة تململ اجتماعي وسياسي، بعد أن ودعت تونس المرحلة الاشتراكية، واستقبلت المرحلة  الليبرالية بكل ما تنطوي عليه من  صراع وعنف واحتجاجات اجتماعية عاصفة.

اختارت الكاتبة هذه المرحلة، دون بقية المراحل، لأنها تمثل منعرجاً خطيراً في تاريخ تونس الحديثة. ففي هذه المرحلة تشكل وعي جديد في الأوساط الجامعية والنقابية، كان وراء كل التغييرات التي شهدها المجتمع التونسي خلال العقود التالية. من السبعينيات تحدر تاريخ تونس الجديد، ومن صلبها ولدت كل الحركات السياسية التي تملأ (هذه الأيام) الساحة التونسية صخباً.

تونس الجديدة

وبسبب من كل هذا نحب أن نقول، إن الكاتبة  تتحدث عن السبعينيات وعينها على تونس الجديدة، تتأمل  انتصاراتها وانكساراتها، قوتها وهشاشتها. سعدية لا تكتب رواية تاريخية، وإنما تستند إلى التاريخ لتخلع على روايتها المعنى والنظام.

وتعد شخصية عائدة بن يحيى من أهم شخصيات الرواية وأولاها بالعناية والنظر. فقد انحدرت هذه الفتاة من قريتها المنزوية في أقصى الجنوب التونسي إلى العاصمة لتواصل دراستها الجامعية، لكن سرعان ما تنقلب حياتها رأساً على عقب، حين يتم اعتقالها على إثر تحركات طلابية. أسهمت فيها إسهاماً فاعلاً، فيتنكر لها أهلها، بل يعلنون (درءاً للفضيحة)   موتها ويقيمون جنازتها، فتأخذ عندئذ حياتها منعرجاً جديداً.

عائدة ماتت في نظر مجتمع إقطاعي قديم ، ينظر إلى الأنثى بتوجس وخوف وارتياب، فما لحقها من "عار"، يتجاوز شخصها ليشمل الجماعة، كل الجماعة، لهذا وجب إلغاؤها ولو رمزياً، لإنقاذ شرف الجميع. وفي العالم الآخر الجديد، تواصل عائدة حياتها لتتمكن بعد جملة من الإخفاقات من تحقيق حلمها، احتراف مهنة الطب.

وبحركة استعارية نبيهة تخلع الكاتبة على هذه الفتاة أسماء ثلاثة، معيوفة وفاطمة وعائدة، كل اسم يحيل إلى مرحلة من مراحل حياتها، إلى قناع من  أقنعتها الثلاثة. هذه المرأه لم تكن واحدة، بل كانت متعددة متكاثرة، إنها الوجوه الكثيرة للمرأة التونسية التي تحيا حالات متناقضة متضاربة، فهي متحررة ومستكينة، ومتمردة وخاضعة وقوية وضعيفة في آن واحد. إنها صورة لمجتمع مازال متردداً بين أزمنة حضارية كثيرة، ولم يتمكن بعد من الانخراط في أحدها تعففاً أو بحثاً عن سلامة موهومة. 

غنيمة البطولة

الشخصية الثانية التي تقتسم مع عائدة غنيمة البطولة، هي شخصية محمد الجبالي، وقد ولد في الريف ثم انتقل إلى مركز القرية للدراسة في كفالة عائلة غير أسرته. يتفوق في دراسته ويسافر إلى ألمانيا ليختص في الهندسة المعمارية في جامعة شتوتغارت. وبعد مغامرات عاطفية شتى، يعود محمد إلى تونس، ويسهم في بعث البطولة مشروع طريق عبر مقاولته، لكن سرعان ما يفشل المشروع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يختلف محمد عن عائدة في مسيرته المتعثرة، فكلاهما تمكن من اختراق الحاجز الطبقي القوي الذي يقسم المجتمع التونسي إلى فئات متصارعة  واستطاع أن يحقق ذاته.

وإلى جانب هاتين الشخصيتين نجد عدداً كبيراً من الشخصيات الأخرى التي نهضت داخل الرواية بأدوار مخصوصة، منها على سبيل المثال،  يحيى بن مصطفى الرجل الذي فقد زوجته وابنه وبات في نظر العامة رجلاً صالحاً، يلوذ بصخرة كبيرة في تخوم القرية، خلع عليها الناس قداسة متوهمة وأصبحوا يتبركون بها.

و نجد شخصية يوسف الذي كان ينتمي إلى أسرة موسرة، وتزوج صورياً عائدة، وفتح بيته للطلبة اليساريين يعقدون فيه اجتماعاتهم المحظورة. و نهض الدكتور عقاب، الطبيب النفسي بدور مهم داخل الرواية، وهو الطبيب الذي التجأ إليه محمد وعائدة. كما نجد شخصية وردة الطالبة التي ساندت عائدة في محنتها، وأصيبت بالرصاص خلال الإضراب العام الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل في أواخر السبعينيات. إن المدينة التي  تؤثثها هذه الشخصيات مدينة غريبة على واقعيتها، فيها توتر واحتقان، وفيها صراع ودماء، لكن فيها أيضاً شوق إلى قيم الحرية  والمساواة والعدالة الاجتماعية.

عالم يمضي وآخر يجيء

والواقع أن الرواية تصوير لعالم يمضي وآخر يجيء، العالم الأول هو عالم الإقطاع والقيم القديمة المتوارثة، أما العالم الثاني فهو عالم الليبرالية ومثلها الجديدة القادمة من الضفة الأخرى. العالم الأول هو عالم الأرياف والقرى، حيث تنتشر الثقافة التقليدية ووسائل الإنتاج القديمة، أما العالم الثاني فهو عالم العاصمة والمدن الجديدة، حيث تنتشر الثقافة الغربية ووسائل الإنتاج الحديثة.

لكن الرواية لا يستبد بها السؤال الاجتماعي فحسب، بل السؤال الوجودي أيضاً. لهذا نجد الكتابة تحفر في منطقتين اثنتين، الأولى هي الواقع الاجتماعي، والثانية هي الروح البشرية. ولعل الرواية تنتقل باستمرار  بين هذين العالمين القريبين البعيدين، الواضحين الغامضين، مؤكدة الوشائج الجامعة بينهما جمع تواصل وانسجام.

إن الكتابة هنا هي  فعل تعرية وكشف، تعمد بكل جرأة، إلى تسليط الضوء على كل ماهو مهمش ومستبعد، على كل ماهو مركون في الظلمة، فلا يلتفت إليه أحد. الكاتبة تأخذنا برفق من أيدينا لتطلعنا على هذا العالم الذي يلفه الغموض.

لهذا نستطيع القول، إن فعل السرد كثيراً ما يتحول في أعمال سعدية بن سالم إلى فعل وجود. ويمكن لحفيدة شهرزاد أن تردد ما هجست به أمها الأولى، أنا أسرد، إذن أنا موجودة.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة