ما إن يفتح جورج طومسون باب كاراجه حتى تدرك أن الرجل محقٌ إذ أطلق على المكان إسم "مركز القمامة". في ذلك المرآب، من الصعب أن تطأ قدماك الأرض بسبب تكدّس أكياس وصناديق تفيض بنفايات بلاستيكية وتطاول أعلى الجدران، فيما لم تغادر السيارة المكان منذ فترة طويلة، بل أُهمِلَتْ تماماً، وكذلك هو مصير أدوات البستنة التي لم تحظ إلا بزاوية صغيرة.
وبحسب المدير المتقاعد لمركز لعب الـ"بنغو" (70 عاماً) من مدينة "ميلتون كينيز" البريطانية، "ضمنيّاً، اقتسمت المنزل مع شريكي. وجعل هو من الغرفة الإضافيّة أستوديو له، وأخذت المرأب لغربلة النفايات". إننا إزاء بطل في معركة يخوضها دفاعاً عن كوكب الأرض. في المرآب تتكدس أكياس المقرمشات، وأغلفة البسكويت، وزجاجات الشامبو وغيرها من أصناف قمامة مصنفة بوصفها غير قابلة لإعادة التدوير، بحسب المجالس البلدية المحلية البريطانية، باعتبار أنّ كلفتها باهظة. وعموماً، تذهب تلك النفايات إلى المكب، ليجد بعضها طريقه إلى البحر.
وفي المقابل، يمثّل جورج جندياً في جيش بيئي متنامٍ أخذ على عاتقه طوعيّاً، في ظل غياب الإجراءات الحكوميّة فعليّاً، تجميع البلاستيك الذي تستهلكه المجتمعات المحليّة، وضمان إعادة تدويره. بعيداً من أية ضجة، أنشأ أكثر من ستة آلاف شخص من أنحاء المملكة المتحدة مجموعات مماثلة في منازلهم، أو أماكن عملهم، أو مدارسهم، أو مراكزهم المجتمعية.
ينشرون الأمر محلياً. يقبلون القمامة من الأصدقاء، والعائلات، وزملاء العمل، والجيران. يشتري البعض صناديق تخزين ويتركها في دروب قرب منازلهم كي يتمكن غرباء عابرون من ترك البلاستيك فيها، فيما لا يتوانى آخرون عن إقناع المتاجر المحلية والحانات بوضع حاويات خاصة بتلك القمامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أوليفيا ماك غينيس من ديربيشاير، واحدة من الذين تحدثت إليهم. في إحدى غرف منزلها تجد مئات من حزم المقرمشات وأكياس أغذية الأطفال. "لا يبدي زوجي استياءً بشأنها"، وفق كلماتها. عندما تصل تلك النفايات إلى كمية معينة، تُرسل إلى شركة خاصة هي "تيراسايكل" بهدف إعادة تدويرها.
وفي المقابل، يحظى المتطوعون بمكافأتين.
تتمثّل المكافأة الأولى في تبرّع صغير لجمعية خيرية من اختيارهم. جورج مثلاً، حصل على 17 ألف جنيه استرليني أنفقها لصالح قضايا جيّدة على مدار ست سنوات.
وتتمثّل المكافأة الأخرى في إدراكهم أنهم يؤدّون واجبهم لإنقاذ كوكبنا مما يسميه مقدِّم البرامج التلفزيونية وعاشق الطبيعة البريطاني ديفيد أتينبورو، الذي يعرف حقائق في هذا الشأن، "ضرراً لا يوصف" يتأتى من نفايات البلاستيك.
"أنا مولع بالعالم"، ويضيف جورج، "إنه يستحق الحفاظ عليه". ومخاوفه، يؤكدها المدافعون عن البيئة إذ يرون أن الحاجة إلى مواجهة جبل النفايات البلاستيكية في المملكة المتحدة لم تكن يوما بمثل تلك الأهمية.
تظهر الدراسات أن ستة مليارات طن من النفايات البلاستيكية موزّعة بين باطن المكّبات وبين المحيطات والمساحات الطبيعية. ولما كان البلاستيك غير قابل للتحلّل، فإنه يبقى هناك إلى الأبد. وهو بحسب أحد التقديرات، سينافس الأسماك في الوزن بحلول عام 2050، بل يتفوق عليها. إذ أن الجزيئات البلاستيكيّة الصغيرة، تقتل ببطء الكائنات البحرية التي تستهلك من دون دراية، وكذلك تسمّم السلسلة الغذائيّة.
"لا يمكننا الاستمرار في تجاهل الحقيقة" بحسب كلمات إيما بريستلاند، أحد النشطاء في منظمة "أصدقاء الأرض"، التي تضيف، "البلاستيك واسع الانتشار، حتى أنه وُجد في القطب الشمالي وفي أجسام بشرية. إننا إزاء أزمة حقيقية".
في المملكة المتحدة، يقترح تقرير حكومي صدر مطلع الشهر الجاري، الضغط على السياسيين كي يعطوا وعوداً بشأن إجراء خفض دراماتيكي لانبعاثات الكربون في البلاد. في الواقع، يبدو دفعهم إلى فعل ذلك كأنه ينتمي إلى عوالم التفاؤل المفرط. هكذا، ينفد الوقت مع ترددهم الواضح في إدراك المشكلة، فضلاً عن عدم أخذها على محمل الجد في أجندتهم.
يسأل نشطاء عن أسباب عدم توفّر التمويل اللازم لإضافة مواد اخرى إلى قائمة تلك التي تحظى بموافقة المجالس على تدويرها. والأهم من ذلك، أنهم ربما يبحثون عن إجابة للسؤال المنطقي التالي: لما كانت شركة خاصة مثل "تيراسايكل" قادرة على أن تتربّح من عملية إعادة تدوير النُفايات، فلمَ لا تجد الحكومة سبيلاً لإنشاء نظام وطني مماثل؟".
في مطبخها، محاطةً بأكياس الخبز وعلب أغذية الأطفال، تكشف أوليفيا ماك غينيس (29 عاماً) ومستشارة في الموارد البشريّة، سبب قرارها التطوّع في مبادرات تجميع البلاستيك. وبحسب كلماتها، "بعدما أصبحنا عائلة من أربعة أشخاص، زوجي وأنا وطفلاي، ارتفعت كمية النفايات التي ننتجها... اكتشفت أن ثمة من تطوعوا لجمع البلاستيك ولكنّ أحداً منهم لم يكن من منطقتي، لذا ارتأيت أن أتولى ذلك بنفسي".
أدركت أوليفيا أنها تعاني مشكلة تقضّ مضجع آخرين، بعدما وضعت صناديق لأكياس المقرمشات وأغلفة البسكويت في مقرّ العمل. وتشرح ذلك، "بدأ الزملاء يجلبون نفايات البلاستيك معهم من المنزل بمعدل كيس كل أسبوعين، في البداية".
لم يُفاجأ توم سزاكي (37 عاماً) الرئيس التنفيذي لشركة "تيراسايكل"، بهذا الأمر. ووفق كلماته، "المعركة من أجل البيئة هي معركة القرن. أعتقد أن الناس يبحثون عن طُرُق ليقفوا على الجانب الصحيح في ذلك الأمر".
أسّس سزاكي الشركة في عام 2001 في نيوجيرسي، بعد تخرّجه من "جامعة برنستون" حاملاً شهادة في الاقتصاد. وكَمَنْ يرمى حجراً في بحيرة، بدأت دوائر نشاطات شركته تتسع لتشمل 22 دولة اخرى. "كل شيء في العالم يصبح نفايات في النهاية، فيما لا يريد أحد العمل في القمامة. أنا رأيت في ذلك فرصاً كثيرة".
تحادثنا عبر "سكايب". كان في مكتبه الرئيس في مدينة ترينتون جالساً، بحسب قوله، إلى طاولة مصنوعة من أبواب ثلاجة وبراميل النبيذ. "يتوافق هذا مع أخلاقياتنا كما يبدو رائعاً أيضاً".
في المبنى نفسه، لا يملّ علماء عن البحث في مختبراتهم عن طُرُق محتملة لإعادة تدوير مزيد من المنتجات، آخرها الحفاضات والسدادات.
انطلقت هذه الشركة في مهمتها بمكتب في حي "بيريفال" اللندني. بدأت في عام 2009. وتفيد التقارير بأنها أعادت تدوير نحو 60 مليون قطعة من القمامة، ودفعت 774 ألف جنيه استرليني لأهداف خيريّة. وفعلت ذلك عن طريق الشراكة مع شركات كبرى متعددة الجنسيات تصنِّع عبوات بلاستيكية، وحثّها على الدفع لقاء معالجة النفايات. لذا، تجد مثلاً أن شركة "ووكرز" تدفع لـ"تيراسايكل" لقاء إعادة تدوير أكياس منتجاتها المستعملة، وتفعل شركة "غارنييه" الأمر نفسه بالنسبة لأغلفة منتجاتها من مستحضرات التجميل. وأخيراً، أُعلن أن شركة "نستلة"Nestle سترعى إعادة تدوير أغلفة حلوياتها. وتتحوّل المواد المعالجة لاحقاً أشياء مفيدة كأن تصبح أثاثاً في للحدائق أو معدات لألعاب الأطفال.
بحسب سزاكي، تشكِّل هذه العملية فوزاً لجميع المعنيين بها. إذ تعزِّر الشركات صورتها بأنها تستثمر في مشاريع مسؤولة، بينما يتلقى المتطوعون في جمع البلاستيك، مثل جورج وأوليفيا، تبرعات للجمعيات الخيرية التي يختارونها (حوالي قرش لكل وِحْدَة من المادة، مع وجود حد أدنى لوزن الوِحدَة). يجدر القول أنّ شركة "تيراسايكل" صارت قيمتها السوقيّة، في سياق تلك العملية، حوالي 24 مليون دولار. ولكن، المال ليس حافز سزاكي، بحسب تأكيده. "ولدت في بودابست عاصمة المجر ومركزها في الصناعة والاقتصاد، ثم انتقلت إلى كندا وهي من مراكز الرأسمالية عندما كنت ولداً. وقعت في حب فكرة أن باستطاعة الشركات تغيير العالم، وهذا ما أردته"، وفق كلماته. واليوم، يسعى سزاكي إلى الذهاب أبعد من ذلك في طموحه.
في سبتمبر (أيلول) المقبل، تطلق شركة "تيراسايكل" خدمة "لووب" للتسوّق عبر الإنترنت في بريطانيا. وتُمكّن "لووب" الجمهور من تسلّم مشترياتهم مثل بوظة "هاغن- داز" وشامبوه الجسم، في حاويات خاصة قابلة لإعادة الاستخدام (بدلاً من إعادة التدوير)، مصنوعة من مواد كالألومنيوم أو الزجاج المُعالَج. وعندما تفرغ إحدى الحاويات، يُعاد جمعها وتنظيفها، ثم يُعاد تعبئتها لإرسالها إلى زبون آخر. ويرى توم أنه "لن تكون حاجة في المستقبل إلى إعادة التدوير، لأن العبوات كلها ستكون قابلة لإعادة الاستخدام... الهدف الرئيس أن تستطيع خدمة "لووب" أن تكون بديلاً للعمل في إعادة تدوير البلاستيك، ويخرج من يعمل في تلك الصناعة من العمل نهائياً". إنه مسار تشجعه منظمة "أصدقاء الأرض".
ولكن، إلى أن نتخلّص من النفايات البلاستيكية، يبقى السؤال مستمراً عن سبب عجز المجالس البلدية في أنحاء المملكة المتحدة، وهي الطرف الأكبر في التعامل مع النفايات، عن إنشاء أنظمة إعادة تدوير تشمل مروحة واسعة من المواد، على غرار ما تفعله هذه الشركة (="تيراسايكل") الخاصة.
وطرحتُ هذا السؤال على "رابطة الحكومات المحليّة" وأجابني رئيس مجلس البيئة التابع لها، المستشار مارتن تيت، عبر بيان ورد فيه أنّ "المجالس المحليّة تؤدي دورها عندما يتعلّق الأمر بتحسين معدلات إعادة التدوير بالتوافق مع خدماتنا في جمع النفايات، ما يؤدّي إلى إبعاد ملايين الأطنان من القمامة عن المكب سنوياً".
لكن، ومع إقراره بأنه ما يزال متوجّباً إنجاز خطوات أوسع في ذلك المجال، يرى أنه "لا بد من أن يؤدي المنتجون والمستهلكون دورهم في المعركة ضدّ النفايات غير الضرورية وغير القابلة للتدوير".
ورفضت "وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفيّة" في بريطانيا، إعطاءنا أي تعليق عن ذلك الشأن.
ويوافق جورج طومسون مثلاً على أن الشركات المُصَنّعة للعبوات البلاستيكية يجب أن تجتهد للقضاء على ذلك النوع من القمامة في المقام الأول. "أحياناً، بينما أعيد فرز النفايات كي تصبح جاهزة للإرسال، أجد بينها أشياء كثيرة لم يكن تصنيعها ضرورياً في الأساس. يبذل الناس جهدهم في هذا الإطار، ويتعين على الشركات أن تبذل جهداً أيضاً، كي نتوصل إلى حل ناجع".
لن ينجو كوكب الأرض إلا عبر الالتزام والتضحية اللذين يبديهما جورج طومسون وأمثاله في المجالس والبرلمانات وغرف الاجتماعات كلها. يتوجّب ذلك، قبل أن يفوت الأوان بالنسبة إلينا جميعاً.
© The Independent