يعتبر هذا البحث المرة الأولى التي تتمكن فيها البشرية من الشروع في رسم خريطة لباطن كوكب آخر غير الأرض.
وقد اعتمد البحث الجديد على بيانات مأخوذة من مهمة المسبار الفضائي "إنسايت" InSight التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، الذي كان يبحث عن زلازل مريخية تهتز عبر سطح الكوكب.
وباستخدام المعلومات في شأن تلك الزلازل، في مقدور الباحثين أن يتعرفوا إلى ما يخبئه الجزء الداخلي تحت سطح المريخ.
في الجزء القابع تحت موقع هبوط "إنسايت"، يبلغ سمك القشرة نحو 20 أو 39 كيلومتراً، وفق فريق بحث دولي بقيادة عالمة الجيوفيزياء الدكتورة بريدجيت نابماير إندرون في "معهد الجيولوجيا والمعادن" في "جامعة كولونيا" الألمانية، والدكتور مارك بانينغ في "مختبر الدفع النفاث" الذي يتولى إدارته "معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا" ("كالتيك" Caltech).
تقدم دراسة الطبقات الداخلية للكوكب، المتمثلة في قشرته ووشاحه (الجزء بين القشرة واللب) ولبه، نظرات ثاقبة أساسية حول تكوين الكوكب الأحمر وتطوره، بالإضافة إلى كشف النقاب عن أي نشاط جيومغناطيسي وتكتوني ربما يحتوي عليه.
يمكن استكشاف المناطق الداخلية العميقة عن طريق قياس الموجات التي تنتقل عبر الكوكب بعد حصول حوادث اهتزازية من قبيل زلزال.
ومعلوم أن الخصائص الداخلية للأرض قد استكشفت باستخدام الأساليب المذكورة.
في الماضي، اقتصرت التقديرات التي كان مستطاعاً تقديمها على فوارق نسبية فقط في سمك قشرة المريخ، واحتاج العلماء إلى افتراضات إضافية بغية التوصل إلى سمك مطلق أو قاطع. أظهرت تلك التقديرات تشتتاً كبيراً، بناءً على الافتراضات التي طرحت في هذا الشأن.
ولكن الآن عوض تلك الافتراضات يلجأ علم الزلازل إلى عملية قياس مباشرة في موقع الهبوط (هبوط المركبة الفضائية "إنسايت")، ويحدد سمك القشرة للكوكب برمته.
تسمح تلك البيانات المستقلة في المجال أمام الباحثين لتقدير كثافة قشرة المريخ.
الدكتور كنابماير إندرون، الباحث الرئيس في الورقة البحثية التي نشرت في مجلة "ساينس" Science، قال إن علم الزلازل يقيس أساساً التباينات في السرعة، وهي الاختلافات التي تسجلها سرعة انتشار الموجات الزلزالية في المواد المختلفة.
أضاف الدكتور إندرون أنه "على نحو يشبه جداً علم البصريات، حيث يمكننا ملاحظة ظواهر من قبيل انعكاس الضوء وانكساره".
"نستفيد أيضاً فيما يتعلق بقشرة المريخ،" حسبما أوضح الدكتور إندرون من حقيقة مفادها "أن القشرة والوشاح مصنوعان من صخور مختلفة، مع فارق قوي بينهما في سرعة انتشار الموجات الزلزالية."
من ثم، يمكن تحديد بنية القشرة بدقة بناءً على تلك الفوارق. تظهر البيانات أنه في موقع هبوط "إنسايت"، يبلغ سمك الطبقة العليا نحو ثمانية كيلومترات، مع وجود فارق، زائد أو ناقص، كيلومترين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتمركز أسفل تلك الطبقة طبقة أخرى على عمق نحو 20 كيلومتراً، بفارق يبلغ خمسة كيلومترات.
وفق الدكتور كنابماير إندرون، "من الوارد أن الوشاح يبدأ أسفل تلك الطبقة، ما قد يشير إلى قشرة رقيقة جداً، حتى بالمقارنة مع القشرة القارية على الأرض".
وضرب الدكتور مثلاً بمدينة "كولن الألمانية، حيث يبلغ سمك قشرة الأرض نحو 30 كيلومتراً."
كذلك يحمل سطح المريخ طبقة ثالثة تجعل سمك القشرة تحت موقع هبوط "إنسايت" نحو 39 كيلومتراً، وبفارق ثمانية كيلومترات.
وقال الخبراء إن تلك التقديرات ستتوافق مع النتائج السابقة، غير أن الإشارة الصادرة من تلك الطبقة (الثالثة) لا تعتبر أساسية لمطابقة البيانات الموجودة. في الحالتين كلتيهما، لا يمكن للعلماء استبعاد احتمال أن تكون القشرة بأكملها مصنوعة من المادة نفسها المعروفة من القياسات السطحية ومن نيازك مريخية.
تشير البيانات إلى أن الطبقة العلوية تتكون على نحو مفاجئ من صخرة مسامية، وليس مستبعداً أيضاً وجود أنواع صخرية أخرى عند أعماق تتجاوز الصخور البازلتية (صخور نارية بركانية صلبة سوداء) الظاهرة على السطح.
ويعتبر القياس الواحد المستقل لسماكة القشرة في موقع هبوط "إنسايت" كافياً لرسم خريطة للقشرة عبر الكوكب بأسره.
تقدم قياسات مأخوذة من أقمار صناعية تدور حول المريخ صورة شديدة الوضوح عن مجال جاذبية الكوكب، ما يسمح للعلماء بمقارنة الفوارق النسبية في سمك القشرة الأرضية مع القياس المأخوذ في موقع الهبوط. ويوفر الجمع بين هذه البيانات خريطة دقيقة للجزء الداخلي من المريخ. كذلك تعطينا البيانات المتعلقة ببنية المريخ الحالية معلومات حول الكيفية التي تطور بها الكوكب.
في دراسة منفصلة، استخدم سيمون ستالر من "المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ" (ETH Zurich) وزملاؤه الإشارات الزلزالية الخافتة المنعكسة عن الحد الفاصل بين وشاح المريخ ولبه بغية تفحص لب الكوكب.
في النتيجة، وجدوا أن نصف قطر اللب المعدني السائل الضخم نسبياً يبلغ نحو ألف و830 كيلومتراً، ويبدأ تقريباً في منتصف المسافة بين سطح الكوكب ومركزه، ما يشير إلى أن الوشاح يتكون من طبقة صخرية واحدة فقط، وليس من طبقتين، خلافاً للأرض.
وتشير النتائج إلى أن اللب المكون من الحديد والنيكل أقل كثافة مما كان يعتقد سابقاً ويكتنز عناصر أخف وزناً.
(أسهمت وكالة "برس أسوسييشن" في إعداد التقرير)
© The Independent