Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن انقلاب الكرملين على منصة "يوتيوب" بهدف قمع الصحافة المستقلة

سوق غير متوقعة للإعلام في روسيا أطلقتها شركات التكنولوجيا العالمية وتتحدى السلطات

يمسك فلاديمير بوتين بلاده بقبضة حديدية وصلت أصابعها إلى "يوتيوب" (غيتي)

لطالما اعتُبر "منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي" الذي يسلط الضوء على الاستثمارات الروسية، مقياساً جيداً للوجهة التي تسير البلاد إليها. فمع استمرار بوتين في الحكم، انتقل المنتدى من ألعوبة حزب تسيطر عليها الأوليغارشية الحاكمة في بداية الألفية الثانية إلى واجهة تجارية مملة لأعضاء الحزب الشيوعي الروسي ومؤسسات الدولة والبروباغاندا التي أصبحت عليها اليوم.

ولعل أكثر الرسائل أهمية لهذا الحدث في نسخته الحالية، قد وُجّهَتْ على شكل منصة عرض مبهرجة سُميت "روتيوب" RuTube ، البديل المحلي الذي جُرِّبَ وفشل، عن موقع "يوتيوب" YouTube الشهير.

وثارت دهشة الحاضرين حيال فكرة تضمنها مقطع فيديو ظهر فيه ديناصور يعثر على أموال للإعلانات، قرب مصارف في البهو الرئيسي للمنتدى. بيد أن الجنود الأوفياء للكرملين كانوا حاضرين ومستعدين لشرح المشهدية للذين لم يفهموا الفكرة على الفور، مستخدمين خطابات ترتسم من خلالها خطوط معركة جديدة حتمية ضد التكنولوجيا العالمية.

إذاً، لقد أصبح "يوتيوب" خطراً على الأمن الروسي بحسب ما أعلنت مارغاريتا سيمونيان الرئيسة المشاكسة لقناة "أر تي" RT الممولة من الدولة، مضيفة "إن عدم الدفاع عن سيادتنا الرقمية يشبه عدم دفاعنا عن حدودنا".

وبحسب ماريا زاخاروفا، الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية، فإن مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن تكون خاضعة للسلطات القضائية المحلية. وكذلك رأى ألكسندر زهاروف، وهو مدير تنفيذي لإحدى وسائل الإعلام التي تديرها الدولة، أن روسيا كانت في أمس الحاجة إلى بدائل "عصرية ومؤاتية" لعملاق الفيديو الأميركي.

ويُعتبر الروس حالياً أحد أكثر الشعوب تمرّساً في أمور الإنترنت. إذ يشكل 83 في المئة منهم مستخدمين منتظمين لتلك الشبكة. ويستخدم تسعة من أصل عشرة من مستخدمي الإنترنت في روسيا، موقع "يوتيوب" أقلّه من حين إلى آخر. ويبحث معظمهم عن وصفات الطعام أو عن فيديوهات موسيقية، بيد أن نسبة كبيرة منهم مسجلون في فيديوهات الفساد التابعة للمعارض الروسي نافالني، وأشرطة مرتبطة بالصحافة المستقلة التي أُزيلت عن التلفزيون الرسمي منذ وقت طويل.

وبالتالي، يطرح هذا الأمر معضلة بالنسبة إلى نموذج التحكم بوسائل الإعلام الذي يديره الكرملين الذي يحاول جاهداً معالجة هذه المسألة.

تاريخياً، ربطت علاقات وثيقة بين الصحافيين والكرملين. ولكن، جاء ذلك من باب أنه كلما نشأت وسيلة إعلامية مستقلة، تكون أول خطوة تتخذها الدولة هي إغلاقها بسرعة.

وبدأت موجة قمع حرية التعبير في ظل حُكم الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. إذ جهد ذلك الزعيم الروسي كي يتحكم في نسب المشاهدة المتدنية التي نالتها حملات الإعلام الدعائي (= بروباغاندا)، بيد أن الأمور اتخذت منحى مختلفاً بشكل ملحوظ في عهد فلاديمير بوتين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستغرق الأمر كثيراً من الوقت كي يبلغ هذا الحد من الخداع والتحكم الذي وصلنا إليه اليوم. ففي السنوات الأولى، صبّ الكرملين جهوده على التلفزيون الجماهيري الأكثر مشاهدة. وقد استغرق بعض الوقت قبل أن يوسع سطوته على صحافة الـ"تابلويد" الشعبوية ثم الصحف المؤثرة ومن بعدها الإنترنت.

وفي هذا الإطار، تعددت الأدوات وتراوحت بين أساليب العصابات في الاستيلاء على وسائل الإعلام إلى طرق ضغط أكثر نعومة عبر المعلنين. بيد أن الصحافيين تمكنوا نوعاً ما من إيجاد وسيلة للنجاة. حتى مع إغلاق الوسائل الإعلامية التي يعملون فيها، برزت مشاريع من تحت الرماد كطائر الفينيق، واستخدمت كل ما توفّر لها من منصات جديدة.

وشكل تجسيد الصحافة الروسية على "يوتيوب" استمراراً جزئياً في ذلك الاتجاه. وكذلك لقي ذلك التوجه دفعاً من التغيير الجذري في اقتصادات وسائل الإعلام. ولم يكن ذلك التغيير مقتصراً على روسيا. ففي كل أنحاء العالم، حظي ذلك التغيير بتداعيات سياسية ملحوظة، مع تَغَلُّب موقع "يوتيوب" ومزودين مستقلين للمواد الإعلامية الرقمية على التلفزيون الرسمي وحملات البروباغاندا.

وبرز في مقدمة تلك الصحافة الجديدة أليكسي بيفوفاروف وبرنامجه Redaltsiva (الافتتاحية). فقد عايش ذلك الصحافي المخضرم الذي تمتد مسيرته المهنية على مدى 47 عاماً، تقلبات كثيرة من الأنواع التي عايشتها صناعة الإعلام بشكل عام. وشكل بيفوفاروف وجهاً بارزاً في شبكة "أن تي في" NTV طيلة أعوام عدة. وقد ذكر أنه قدم "تنازلات كثيرة" مع ميل القناة إلى الاتجاه المؤيد للكرملين.

وفي المقابل، تصاعدت الأمور وفاضت عن الحد. وفي 2013، غادر بيفوفاروف البث التلفزيوني. ويملك حالياً قناته الخاصة على "يوتيوب" مع نسبة مشاهدة شهرية تبلغ 20 مليون مشاهد، إضافة إلى رأس مال كافٍ مكنه من توظيف 25 شخصاً.

واستطراداً، يعتبر بيفوفاروف أن نجاح مشروعه الناشئ جاء نتيجة مباشرة من الضغط الشديد الذي يمارسه الكرملين. ويشير إلى أن المنتج الذي يقدمه يتمثّل أساساً في إضفاء طابع جديد على نوع التقارير التي بُثّت على شاشات التلفزة الأرضية قبل 15 عاماً. والآن، بات ما ينتجه بيفوفاروف يغرد خارج السرب في ميدان خالٍ من المنافسة. وأضاف، "نأتي بأمور لا تشاهدونها على التلفزيون الروسي اليوم، ولذا، نملك ميزة تنافسية كبيرة".

وشهدت صحافة "يوتيوب" الروسية نقطة تحول مهمة في موسم 2016-2017. ففي ذلك الوقت، أظهر يوري دود، المُدوّن الإلكتروني الروسي الرائد في ذلك المجال، أنه من الممكن أن تحقق المشاهدة عبر الإنترنت أرباحاً بمعزل عن تلفزيون الدولة.

واستطراداً، شكّل ذلك الأمر الشرارة التي دفعت ببيفوفاروف إلى تنفيذ خطوته. وحذا كثيرون حذوه، فأدخلوا أنفسهم إلى مجال "يوتيوب" المملوء بإمكانات كسب المال على الصعيد الدولي، إضافة إلى تحررهم من الكرملين. ومن بين هؤلاء شبكة التلفزيون المستقلة الوحيدة في روسيا "دوزد" Dozhd ومعناها المطر.

ففي مطلع 2021، مع دخول روسيا في خضم الاحتجاجات، اتخذت قناة "دوزد" قراراً جريئاً بنقل البث الإخباري من الاشتراك المدفوع إلى صيغة المشاهدة المجانية على "يوتيوب". وجاء التأثير فورياً وضخماً. إذ توسعت قاعدة المشاهدين الشهرية إلى 25 مليون مشاهد، ما رفع من قدرات الشبكة ومكنها من إطلاق برنامج صباحي جديد.

وشكل ذلك بالإجمال انعطافة بارزة بالنسبة إلى قناة كانت تتأرجح على شفير الانهيار منذ 2014 حينما ألغاها الكرملين عن شبكات الكابل والإعلانات المرتبطة بها.

وفي ذلك الإطار، يشير تيكون دزيادكو، رئيس تحرير القناة أنه شبه متأكد من عدم مهاجمة الدولة تلك الوسائل الإعلامية مجدداً. وتابع، "إن الطبيعة الأفقية لقناة (يوتيوب) ومواقع التواصل الاجتماعي أبطلت النموذج القديم للبروباغاندا والتحكم اليدوي، الذي دأب على إحضار رؤساء التحرير والمحررين إلى الكرملين بهدف إجراء محادثات أسبوعية". ونقل دزيادكو إلى صحيفة "اندبندنت" أنه بات متوجّباً عليهم "حاضراً التعامل مع عدد ضخم من المدونين وملايين المشتركين على القنوات، وأنا واثق من أنهم يرغبون في قطعنا عن الشبكة".

في المقابل، أضاف دزيادكو أنه لا يعتقد بأن السلطات مستعدة لاتخاذ هذه الخطوة الجذرية، أو أقله أنها ليست مستعدة في الوقت الحاضر. ويشير إلى أن صُنّاع القرار في الكرملين يدركون حتماً الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها "يوتيوب" ومخاطر استخدام تلك الأداة الصريحة. وكذلك يحاولون استخدام هذه المنصة بأنفسهم، من خلال جذب بعض أشهر نجوم "يوتيوب" كي يعملوا لصالحهم. وفي هذا السياق، أوضح دزيادكو أنه "لا يمكننا استبعاد أي احتمال بطبيعة الحال، لكن يجب ألا تسيطر علينا المخاوف مما سيحدث لاحقاً. نستمر بالعمل بحسب ما فعلنا ونفعل دائماً".

ومن الناحية الرسمية، يعلن الكرملين أنه لا يخطط لحذف "يوتيوب" ويصف المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، هذه الفكرة "بالغبية". عوضاً عن ذلك، عبّرت السلطة عن خططها أمام شركات التكنولوجيا الأجنبية العملاقة في ما يتعلق بالمعركة ضد "المحتوى الإجرامي"، وفق تعبيرها.

وفي إطلالته التلفزيونية السنوية المباشرة في يونيو (حزيران) الماضي، اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تلك الشبكات بنشر المواد الإباحية الخاصة بالأطفال وإرشادات حول إعداد خلطات قنابل الـ"مولوتوف" الحارقة. وصرح، "نقول لهم أن عليكم حذف هذا المحتوى. لكنهم لا يصغون إلينا، وذلك أمر خاطئ".

في سياق موازٍ، تكمن المشكلة في أن تعريف الكرملين لمصطلح "إجرامي" يتضمن غالبية الرسائل والتصريحات المعارضة. وأدى ذلك الاختلاف في وجهات النظر إلى اندلاع نقاش عام مستمر على موقع "تويتر" الذي يحظى بمساحة محدودة أكثر من "يوتيوب" في روسيا. وفي 10 مارس (آذار)، أعلنت الدولة بأنها ستقيد إمكانية الدخول إلى ذلك التطبيق المخصص للمدونات الصغيرة، لكن ذلك الإجراء لا يزال يراوح مكانه حاضراً.

في سياق متصل، يشكل ذلك التدخل جزءاً من مجموعة أسلحة يطورها الكرملين ضد شركة التكنولوجيا العملاقة. ولكن هذه الأسلحة بعيدة كل البعد من أن تكون أحادية الطرف، مع شنّ هجمات قضائية ضد المدوّنين الإلكترونيين المستقلين، مِنْ قِبَل البرلمان وقوى مؤيدة للكرملين. ومثلاً، عمدت يكاترينا ميزولينا، ابنة النائبة المتشددة والمناهضة لحقوق المثلية الجنسية إيلينا ميزولينا، إلى محاولة مقاضاة المُدوّن يوري دود زاعمة أنه يروج استعمال المخدرات في برامجه.

ويتيح "تشريع لوغوفوي" للمواطنين الذين فرضت عليهم عقوبات، نقل صلاحيات أي مطالبات قانونية أجنبية إلى محاكم مرعية الإجراء في روسيا. وبهذه الطريقة تمكّن قسطنطين مالوفيف الذي ينتمي إلى النخبة المقربة من الكرملين من "الفوز" في نزاعه القضائي مع "غوغل" بعد أن حظر ذلك الموقع قناة أنشأها مالوفيف عنوانها "تزارغراد" تماشياً مع العقوبات الأميركية.

واستكمالاً لتلك المشهدية، تتمثّل أقوى أداة قانونية طُرِحَتْ حتى الساعة في قانونٍ يعود إلى ديسمبر (كانون الأول) 2020 يتيح للدولة "حظر المصادر التي تنتهك الحقوق الدستورية والحريات بشكل جزئي أو كلي".

وفي ذلك الإطار، تزعم السلطات أن القانون أُقِرَّ بهدف حماية الإعلام الروسي من الحظر الغربي. ولكن، لدى التمعن عن كثب في ذلك القانون، ترى أنه يؤدي في الأقل هدفاً مزدوجاً، إذ يقدم للكرملين طريقة قانونية ممنهجة في استهداف "يوتيوب" و"فيسبوك".

وفي سياق مماثل، سبق أن تعرض محرك البحث العملاق "غوغل" للملاحقة القضائية في إطار قانون جديد آخر أعده النائب أندري لوغوفوي المعروف بدوره في اغتيال الجاسوس ألكسندر ليتفينينكو في لندن سنة 2006.

يُشار إلى أن محرك البحث "غوغل" رفض الإذعان للعقوبة ما أدى إلى احتمال تكبيدها نظرياً غرامات تعادل رسملة سوقها العالمية برمتها.

© The Independent

المزيد من تقارير