جميعنا يعرف عباس كياروستامي المخرج السينمائي الإيراني الكبير، لكن قلة من بيننا تعرف أنه، قبل أن يقف خلف عدسة الكاميرا ويمنحنا أفلاماً رائعة حصد بعضها جوائز دولية عريقة، مارس الرسم والتصوير الفوتوغرافي والشعر بانتظام، وأن هذه الممارسات خلّفت تأثيراً كبيراً على عمله السينمائي. هذا ما يتجلى في المعرض الضخم الذي ينظّمه له حالياً "مركز بومبيدو" في باريس، في مناسبة مرور خمس سنوات على رحيله، ويتوق إلى إعادة خط المسيرة الإبداعية لصاحب "طعم الكرز" (السعفة الذهبية في مهرجان "كان"، 1997) انطلاقاً من الرسوم والصور الفوتوغرافية والقصائد التي تركها خلفه، من دون إهمال أفلامه. معرض يوفّر إذاً لزواره فرصة فريدة للغوص في عمل هذا المبدع الذي اتقّن عدة لغات فنية، لكنه كان ينظر إلى نفسه كشاعر قبل أي شيء.
في الصالة الأولى من المعرض التي تشكّل حصيلة لكل ما ينتظرنا داخله، يتبين لنا أن كياروستامي أبدع طوال حياته مدفوعاً برؤية فريدة وعزم فني لا يتزعزع، وأن فن الرسم الذي درسه في بداياته ومارسه طوال حياته هو الذي قاده إلى السينما. من هنا مسعاه الخاص الذي لا يمتثل لقوانين الفن السابع، وابتكاره أعمالاً لا تخضع لأي قانون غير الحرية المطلقة: أفلاماً قوية وثورية بدلاً من الأفلام المخصصة للأطفال التي كانت منتظرة منه، صوراً فوتوغرافية مشهدية حين اندلعت الثورة الإيرانية ومنعته من إنجاز أفلامه، قصائد قصيرة على شكل ومضات شعرية لا تشبه سوى نفسها، وفي جميع هذه الأعمال، تلك النظرة المرهفة والثاقبة على الطفولة والضياع النفسي الفردي، حين انتظر الآخرون منه معانقة القضايا الجماعية التي كانت ولا تزال تمزق وطنه. أعمال ما لبث هذا المجرّب بلا كلل أن حررها من الجانب السردي الذي أسهم في شهرته السينمائية، لاستكشاف أراضٍ جديدة. هكذا انبثقت تلك الرسوم والصور والنصوص التي تفجّر في انفتاحها الحدود التي تفصل عادة بين الفنون، ونستشف في جميعها أثر التقليد الشعري الفارسي القديم الذي غذّى ذهنه ونظرته ولغته، وفي الوقت نفسه، تلك القدرة على الاندهاش واللعب والمرح التي حافظ عليها كاملةً حتى النهاية.
الطبيعة وفن الهندسة
في الصالة الثانية من المعرض نشاهد سلاسل مختلفة من الصور الفوتوغرافية التي التقطها كياروستامي وتندرج جميعاً تحت موضوع واحد يربط الطبيعة بفن الهندسة. صور لمشاهد طبيعية صافية، وأيضاً لجدران ونوافذ وأدراج وأبواب منازل ومبانِ مهجورة استوقف لغزها الفنان خلال ترحاله، وتشارك في استحضار بيئة أو فضاء مشبع بالشعر كما كان يعيشه ويكتبه: حميمي وشامل، يومي ومثير للدهشة، لعبي وميتافيزيقي. أعمال تربط المرئي بالخفي، الحاضر بالغائب، وتشكّل خير مدخل لولوج عالمه الإبداعي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كياروستامي عشق التصوير الفوتوغرافي لأنه كان يعفيه من ضرورة السرد. فصوره تشكيلات مجرّدة تضع إطاراً لتأمل الطبيعة، وفي الوقت نفسه، تفتح حقل التأويل. هذا ما يتجلى في التجهيز "طرقات كياروستامي" الذي يتألف من صور التقطها على الطرقات ويدعونا إلى استكشاف مناظره الطبيعية المفضّلة وإلى الإصغاء إليه مفسراً قيمة الطريق في الشعر الفارسي.
في الصالة التي تحمل عنوان "انظروا إليّ"، يتضح لنا أن شغف الفنان بالنظرة دفعه إلى إنجاز أعمال فوتوغرافية راديكالية تتركّز حصراً على المتأمِّل. ولإنجازها تردد على مدى عقود على المتاحف الأوروبية بغية الإمساك بنظرة الزوّار ضمن لعبة مرايا تستحضر بعض أفلامه. وتشهد هذه السلسلة من الصور وسلسلة "أنا ومونيه" على ميله اللعبي وأيضاً على عدم تردده في تجاوز الحدود بين رسم وتصوير فوتوغرافي وتشكيل رقمي بغية إحياء العمل الفني خارج إطاره.
نافذة على الحياة
وهذا ما يقودنا إلى الصالة "نافذة على الحياة" المرصودة صورها لموضوع النافذة المتواتر في عمل كياروستامي. النافذة كإطار داخل الإطار، كتميمة رسامية وكركيزة للعبة المرايا عبرت جميع أنماط إبداعه. وتمثّل صور هذه السلسلة فضاءات داخلية متداعية ومهجورة تطلّ على مشاهد نيّرة أو على ولادة منظر في الاتجاه المعاكس للضوء. وسواء في فيلمه "24 إطاراً" أو في المونتاج الرقمي المشكَّل من سلسلة "أنا ومونيه"، سمحت النافذة للفنان ببلبلة الحدود بين رسم وتصوير عبر دعوتها المُشاهِد إلى التأمل أمام الامتداد اللانهائي للنظرة.
وفي الصالة التي تحمل عنوان "خذني إلى البيت"، يتبيّن أن افتتان كياروستامي بالأداة الرقمية وبالإمكانات الإبداعية التي توفّرها حثّه إلى ابتكار قطع فنية مجهولة الهوية تخدع بشكلٍ مرح المُشاهد على مستوى سيرورة ابتكارها، كما في فيلمه ما قبل الأخير، "خذني إلى البيت"، الذي تألف بشكل شبه حصري من صور فوتوغرافية ثابتة تعود إلى سلسلة "خطوات".
ولا يهمل المعرض كياروستامي الرسام، فبداياته كانت مع هذا الوسيط الذي أنجز بواسطته أولاً ملصقات ورسوم تزيينية لكتب الأطفال، ثم حافظ على شغفه به طوال حياته، مستكشفاً إياه بلا كلل ومعيداً ابتكاره في ملصقات لاحقة لأفلامه الخاصة وأيضاً لأفلام سينمائيين من أجيال مختلفة. لا يهمل المعرض أيضاً شغفه بالشعر الصوفي الفارسي والجهد كبير الذي بذله من أجل اقتطاف منه أبيات أو شذرات حول موضوع الحب استثمرها داخل عمله بطرق مختلفة وشجّع الأجيال الصاعدة من الفنانين في وطنه على استخدامها واستلهامها لصوغ خطاب عشقي جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الصالة الأخيرة من المعرض فكرّست لكياروستامي الشاعر الذي مارس الكتابة الشعرية طوال حياته ووضع مئات القصائد القصيرة التي تشكّل غالباً لقطات بصرية تجمع بين مراقبة الطبيعة والتأمل الوجودي. قصائد ليلية بمعظمها تحضر نماذج منها في الصالة مرفقة بترجمتها الفرنسية وتشهد على عدم مبالغة صاحبها في اعتبار نفسه شاعراً قبل أي شيء. هنا قصائد قصيرة على طريقة الهايكو ترجمتها عن الفرنسية، تقدم صورة عن تجربته الشعرية.
من شعر كياروستامي
بين أشلاء الغيوم/ قرر القمر/ أن يظهر
*
سرّي/ بحتُ به للقمر/ مع بزوغ الشمس/ سرّي انتشر
*
قرص القمر/ كان يتخبّط/ في النهر/ في النهاية حمله/ النهر معه إلى البحر
*
بيني وبين القمر/ حديثٌ/ لا القمر يسمعه/ ولا أنا
*
أبداً/ لم تكن الحياة بهذه القسوة/ في الأحياء الفقيرة/ كما تحت الثلج
*
أبداً/لم تكن الأحياء الفقيرة بهذا الجمال/كما تحت الثلج
*
نارٌ ترتفع/ في الغابة/ أشجار الحور/ واقفة تتفرّج
*
مع حلول الليل/ لم يشعل الضوء/ لانتظار الفجر
*
السائرون في نومهم/ خلال لقائهم الليلي/ عمّ يتكلمون؟
*
في أرضٍ مكسوّة بالألغام/ مئات الأشجار/ المكسوّة بالبراعم
*
في المسلخ/ لسع دبّور/ يوماً/ يد الجزّار
*
أنا ممددٌ/ على رقعة أرض مسطّحة/ لا يهمّني إن كانت الأرض مدوّرة أم لا