يعود المخرج السينمائي الإيراني المعارض عباس كيارستمي في الذكرى الخامسة لرحيله إلى الضوء. هناك حدثان مرتبطان به: الأول هو الاستعادة الكاملة لأفلامه التي يقدّمها مركز بومبيدو الفرنسي وتستمر حتى أواخر الشهر المقبل. أما الثاني فيتمثّل في عرض عدد من أفلامه على منصّة "موبي" الإلكترونية التي باتت واحدة من معاقل السينيفيلية على الإنترنت. اللحظتان على رغم تفاوت أهميتهما، ينتشلان المخرج الإيراني الطليعي من النسيان، علماً أنه لم يقع فيه بعد نظراً لأهمية إرثه السينمائي على المستوى الفنّي والثقافي والاجتماعي والسياسي.
صرّح مركز بومبيدو أن 46 فيلماً لكيارستمي تُعرض في صالاته طوال هذه الاستعادة التي يشارك فيها العديد من الضيوف للحديث عن أعمال المعلّم، والإمعان في تفاصيلها الدالة على تفوق هذا السينمائي على سائر أبناء جيله. الاستعادة لا تكتفي فقط بأفلامه المعروفة بل تنبش في سجلّه، خصوصاً في السنوات الأولى لتجربته عندما كان لا يزال غير معروف. "هناك كنوز رهن الاكتشاف"، يؤكد المركز كاشفاً أن عدداً من هذه الأفلام المعروضة في فرنسا للمرة الأولى وصلت من إيران في حالة يُرثى لها، فتولت شركة المنتج الفرنسي ماران كارميتز (منتح عدد من أفلام كيارستمي) عملية تنقيحها وترميمها في عمل جبّار استمر عشر سنوات وانتهى في أواخر عام 2019، إلا أن تفشّي وباء كورونا حال دون عرضها فوراً.
هذه الاستعادة ليست دخيلة على ثقافة الفرنسيين، فهم من عشّاق كيارستمي منذ على الأقل تاريخ فوزه بـ"سعفة" كانّ عام 1997 عن "طعم الكرز"، التحفة البصرية التي كرّسته عالمياً. مجلة "دفاتر السينما" لطالما دافعت عن أعماله فاتحةً صفحاتها لها. أمّا الناقد الفرنسي جان ميشال فرودون فكانت له إسهامات كبيرة في التعريف بعمل المعلّم حول العالم.
"طرق الحرية"
لفتة ذكية اختيار "طرق الحرية" عنواناً للاستعادة. من خلال إعطاء هذا العنوان للحدث، فهم المنظّمون جوهر سينما كيارستمي الذي يقوم على مشهدية الطريق. تلك الطرق المتعرجة التي لا بداية لها ولا نهاية، على نقيض الحياة التي يعيشها الإنسان. أما شخصياته فغالباً ما كانت تسلك واحدة من تلك الطرق، أحياناً من دون وجهة محددة. الطريق المتعرجة هي أيضاً إحالة على النحو الذي اكتشفنا فيه أفلامه، أقله في العالم العربي حيث لكيارستمي شعبية كبيرة. اكتشافنا لأفلامه كان "متعرجاً" إذا صح التعبير، نتيجة اطلاعنا العشوائي على أفلامه منذ نهاية التسعينيات، وإبحارنا المستمر بين ماضي سينماه وحاضرها. عرفناه بدايةً مخرجاً ثم شاعراً فمصوّراً ورسّاماً. هذا كله على دفعات وبلا أي تسلسل منطقي.
من المستحيل تصنيف سينما كيارستمي أو اختزالها في نوع محدد. هو نفسه قاوم فكرة عقلنة أعماله التي كانت أبعد ما يُمكن عن البيانات السياسية أو إعلان المواقف، بل أنطوت على حقيقتها الداخلية الخاصة بها. "حقائق" جزء منها سيبقى رهناً للتحليل. نهشت سينماه أحاسيسنا ببطء، لقطة بعد لقطة، من ساعة ما اكتشفناها، ولا تزال تفعل فعلتها في وجداننا كلّ مرة جلسنا أمام فيلم من أفلامه.
في تاريخ كيارستمي، تحف سينمائية عدة، من مثل "كلوز آب" أو "عبر شجر الزيتون" و"سوف تحملنا الرياح". لكن كلّ شخص يتعمّق في فنّه، لا بد أن يقع تحت سحر "طعم الكرز" الذي تستعيده منصة "موبي" هذه الأيام. لماذا هذا الفيلم تحديداً؟ لا ندعي أننا نعرف الجواب، ولكن يمكن القول إنه من الأعمال التي لا تخبو مهما مر عليه الزمن، بل لاحظ كثيرون أنه يزداد حداثةً وقدرةً على اختزال الاجتماعي والسياسي والفنّي في مساحة زمنية ضيقة. لـ"طعم الكرز" قدرة عالية على التقاط أحوال إنسان داخل أحوال بلاد، من خلال حالة سينمائية اخترعها كيارستمي وحملت بصمته.
الكرز وطعمه
حكاية الفيلم غاية في البساطة والوضوح: رجل أربعيني يائس يلف بسيارته ضواحي طهران بحثاً عن شخص يوافق، مقابل بعض المال، على دفنه بعد أن ينتحر. في مساره، يلتقي مجموعة من الشخصيات، وكلّ واحد من هؤلاء يتفاعل مع طلبه بطريقة مختلفة. لكن الشعر والفلسفة حاضران دائماً داخل الحوارات ما يعطي الفيلم طابعاً صوفياً. لا ينشغل الفيلم بالمكان الذي سيصله بقدر اهتمامه بالطريق التي يعبرها. طريق جبلية ترابية قاحلة تعبرها سيارة السيد بديع الطامح إلى إنهاء حياته، لتصبح في الآخر (السيارة) شخصية في ذاتها. في مشهد من المشاهد، يسأله رجل عجوز متفاجئاً من رغبته في الانفصال النهائي عن الوجود: "هل أصابك اليأس تماماً؟ هل نظرت مرة إلى السماء عندما تصحو من نومك؟ في الفجر، ألا تريد رؤية شروق الشمس؟ الأحمر والأصفر عند الغروب، ألا تريد أن تراهما مجدداً؟ الناس على الجانب الآخر يودون لو ألقوا نظرة هنا. وأنت تود أن تهرع إلى هناك"... عن هذا المشهد الذي يبلغ فيه الفيلم ذروته، يقول كيارستمي: "أعتقد أن الحياة امتحان، سؤال، وقبل أن نتوصل إلى حلّه نُستبعد، نغادر العالم. العجوز في الفيلم شاهد على ما أقول. يملك الفهم الأفضل للحياة حين لم يبقَ له الكثير ليعيش".
لا شيء تقليدياً في الفيلم. أما النهاية، فهي صادمة. إنها دعوة صريحة للعودة إلى الواقع كي ندرك موقعنا من القصّة التي شاهدناها للتو. فجأةً، نرى كيارستمي يصوّر الفيلم. فجأةً، يزج بنا في الكواليس ليحدث انفصالاً عن القصّة. في مقابلة، قال إنه استوحاه من التفريق الذي نقع عليه في مسرح بريشت: "أردتُ القول إننا لسنا في ما يحصل من حولنا إلا شهوداً، إن العالم يستمر على رغم كلّ ما حصل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السيارة (رانج روفر) تحتل موقعاً بارزاً في "طعم الكرز". هي شخصية في ذاتها. سألتُ كيارستمي في أحد لقاءاتي معه عن إصراره على التصوير داخل السيارة في غير فيلم، وكان معلوماً أنه ليس لأسباب اقتصادية، فرد مستظرفاً: "أعتقد أن السيارة أفضل الأماكن لتستقبل أحدهم؛ لستَ في حاجة إلى فتح الباب للضيف عندما يأتي ولا مرافقته إلى الباب عندما يرحل". هذا الجواب لم يكن مقنعاً. فكيارستمي إضافة إلى أنه لم يحب يوماً الإطالة في شرح أفلامه كي لا يتطاير منها الغموض، كان يتفادى كثيراً الحكي عن البُعد السياسي خشية من الاصطدام بالسلطات الإيرانية التي لم ترحم زملاء له. وعلى رغم صمته، فالمتاعب لاحقته غداة فوزه بـ"السعفة" عن "طعم الكرز". يُروى أنه فور وصوله إلى مطار طهران، كانت السلطات أرسلت "أدواتها" لينهالوا عليه ضرباً بعصي البايسبول. هذه الخبرية تكتم عليها الرجل الكبير لسنوات. من بعد هذه الحادثة، تم توظيف مخرج موالٍ للنظام الإيراني يُدعى إبراهيم هاتاميكيا، لإنجاز فيلم بطله الشرير مخرج يلبس نظارات سوداء على وجهه (مثل كيارستمي) ويسافر من مهرجان إلى مهرجان!
تلاشى هذا كله مع الزمن، العزيز على قلب المعلّم. سقطت السياسة وصمد الفن. لم ينجح الابتزاز إلا بدفع كيارستمي إلى تصوير بعض أفلامه الأخيرة خارج إيران. لكنه مات كبيراً. حسن روحاني نعاه على صفحته. الملايين من الذين لا يفهمون كلمة من لغته بكوه. اليوم، العودة إلى "طعم الكرز" بعد نحو ربع قرن على خروجه تؤكد ما كنّا نعلمه: حداثية وصفاء سينمائي لم يلجأ إلى أي تدليس سياسي وإثارة أو أي من أمراض العصر. بطله هو الإنسان الفضولي المستكشف الذي يتطور داخل سينما دافئة تطرح الأسئلة الصحيحة. بالكاد بالغ غودار عندما قال: السينما بدأت مع غريفيث وانتهت مع كيارستمي.