Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شوبنهاور فيلسوف الإرادة عاش اضطرابات الكينونة

امتدحه فرويد وتأثر به نيتشه وعارضه... وأمه انتقدت عقم أفكاره وأوصى بممتلكاته لكلبه الوفي

شوبنهاور فيلسوف الإرادة (موقع فلاسفة)

يعتقد الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (1788-1860) أن العالم الذي نراه وهم خادع، يذكرنا بالمايا (maya) الهندوسية التي تزيف الحقائق. سبب هذا الوهم أننا ندرك العالم بواسطة مفهوم السببية الفيزيائية والمنطقية والرياضية والأخلاقية، في حين أن العالم الحق، أي جوهر الموجودات كلها، يختبئ وراء المظاهر الخداعة، لا نبلغه إلا بواسطة حدس عظيم يخترق جدار الأحداث الكثيف. إنه عالم عجيب غريب، لا منطق فيه ولا تسويغ له، تسيره إرادة في الحياة تتجاوز مشيئة الأفراد. وعلاوة على العبثية المربكة هذه، ينطوي عالمنا على أسباب المأساة والألم، إذ إن الرغبة الإنسانية التي بها تفصح إرادة الحياة عن نفسها إنما تخدع الإنسان خداعاً مروعاً، فتزين له أنه يسعى إلى منفعته الوجودية، في حين أنه ما برح خاضعاً لأقدار الوجود تتقاذفه على إيقاعات الاضطرابات الكيانية والنفسية، وأعظمها اضطراب الرغبة التي لا يشبعها الفوز بمبتغاها.

نشأ شوبنهاور في علاقة بنوية متأزمة من أصلها. كان والده تاجراً ناجحاً، يروم أن يجبل ابنه على مثاله، فجاب به في أنجاء أوروبا، وسعى إلى إغرائه بكل الوسائل لكي يمتهن التجارة المربحة المريحة. قبل شوبنهاور على مضض، خاضعاً لسلطة أبيه، وما جرأ على الإفصاح عن رغبته الحقيقية في مواصلة دراسة الآداب والفلسفة، غير أن وفاة أبيه المفاجئة أتت تحرره من سبيل كان سيقضي على موهبته الواعدة. في إثر هذه الوفاة التي ظن بها بعضهم انتحاراً، باعت أمه كل مصالح الأسرة التجارية، وأنشأت صالوناً أدبيا كان يتردد إليه الأديب الألماني العظيم غوته (1749-1832)، أما هي فانصرفت إلى الرواية، ومهدت لتنشئة ابنها تنشئة فكرية ساعدته لقاءات الصالون الأدبي في تهذيبها وإثرائها.

صراع مع الأم

لكن علاقته بوالدته كان يشوبها الاضطراب، إذ كانت تؤنبه على عقم أفكاره وغرابة كتاباته. أما هو، فكان يعيب عليها طيشها المسلكي وسطحية رواياتها. وكانت هي أيضاً انعتقت من سطوة زوجها بعد وفاته، فاستثمرت حصتها من الميراث في ما كانت تظنه مصدر إنعاش وإبهاج في حياتها الأنثوية. ما لبثت القطيعة أن حدثت بين الأم المسترسلة في الغواية الأدبية والابن الغارق في تشنجات الوجود. فاستثار الهجر جدلاً حامياً دفع ببعضهم إلى تفسير أسباب الخلاف تارة بالتحاسد الأدبي المضطرم بين الأم الروائية الطامحة والابن الكاتب المنزوي، وتارة أخرى بفرضية نزوع شوبنهاور الفطري إلى مجانبة النساء ومعاداتهم (mysogénie). بيد أن الإنصاف يقضي بالاعتراف الصادق بفضل الأم على ابنها، إذ أتاحت له التعرف إلى غوته ومحادثته، والتقاء المؤرخ الألماني فريدريش ماير (Maier) الذي أثر فيه تأثيراً بيناً من بعد أن حثه على ترجمة نصوص "الأبانيشاد" في صيغتها اللاتينية.

كان شوبنهاور يعشق الشعر واللغة اللاتينية منذ نعومة أظافره. استهوته علوم الطبيعة وكتابات بعض الفلاسفة، فأنشأ يقول: "نمت فلسفتي الخاصة تستلهم استلهاماً ثميناً كتابات كانط على قدر ما استوحت من أسفار الهندوس المقدسة ومن كتابات أفلاطون، وذلك في إثر تأملاتي في مشهد الطبيعة الحي". أما الفلاسفة الأربعة الذين أثروا في بناء شخصيته الفكرية، فهم أفلاطون وأرسطو وكانط وسبينوزا. أصغى إلى محاضرات الفيلسوف الألماني المثالي فيشته في برلين (1811-1813)، ولكنه ما لبث أن ارتد عنه حين عاين التصلب العقائدي في مثاليته. لم تحركه أمليات شلايرماخر (Schleiermacher) في تاريخ فلسفة القرون الوسطى. غير أن الدروس التي تلقاها في الأدب اللاتيني أشعلت فيه حميا الشغف بأساطير تلك الحقبة، ولاسيما الشاعر اللاتيني العظيم هوراس الذي أضحى معبوده المفضل، وما عتم أن ضم إليه من العصور الوسطى الشاعر الفلورنتيني بتراركا (Petrarca).

في محادثاته المثمرة مع غوته، استوحى منه كتاب "النظر والألوان". ومن ثم، عكف على إعداد أطروحة الدكتوراه في مبدأ العلة الكافية في جامعة إيينا الألمانية (Jena). أما عمله الأبرز، فكان كتاب "العالم بما هو إرادة وتصور" (Die Welt als Wille und Vorstellung) يناقش فيه المأزق الذي زج كانط العقل الإنساني فيه حين حظر عليه أن يتجاوز عتبة الظواهر من أجل بلوغ الجواهر المنحجبة.

ضد هيغل

من مآسيه الأكاديمية أنه عاصر هيغل يحاضر في جامعة برلين، وكان على أشد المخاصمة الفكرية معه، فإذا به يعين مواقيت دروسه الجامعية في الزمن عينه الذي يحاضر فيه هيغل، فكان أن هجره الطلاب، ولم يأت إليه إلا نفر قليل جعله يسقط في محنة الانهيار العصبي، فكتب في العام 1823 يخاطب نفسه ويعزيها، وذلك من بعد أن استطاع التمييز بين شوبنهاور الفاشل في الأداء التعليمي الأكاديمي، وشوبنهاور المتألق في كتاب العالم بما هو إرادة وتصور.

هجر التدريس الفلسفي واستقر في فرانكفورت العام 1833، وما لبث أن حصد بعض التعزية حين منحته الأكاديمية النروجية (درونتهايم) جائزة أفضل كتاب سنوي تقديراً لمؤلفه "حرية الإرادة" (1839)، ولكنه عاد فأصيب بخيبة مؤلمة، إذ رفضت جمعية كوبنهاغن الملكية أن تمنحه جائزة مماثلة كان يرنو إليها حين عهد إلى لجنة التحكيم في كتابه "أساس الأخلاق". يعلل بعضهم سبب الرفض بتردد أعضاء اللجنة الذين استرهبوا الكلام المقذع الذي أصاب به في كتابه هذا هيغل وفيشته، وهالهم تسفيهه بعض ما جاء في فلسفة كانط العملية. أغاظته انتقادات المجتمع الأدبي والفلسفي، فشن هجوماً عنيفاً على المؤسسة الفكرية برمتها، وانتهى إلى عزلة مريرة أحس فيها أنه ضحية الاضطهاد الفلسفي المتعمد، ومع أن التفاؤل العابر بلغ به أحياناً حدود الأمل في أن تقرأه الأجيال المقبلة وتفهم مقاصده فهماً يتجاوز الاقتبال الخجول البطيء الظالم الذي خصه به جيله، إلا أنه كان يأسف ويتحسر لشدة ما عاين من إهمال وإقصاء إبان حياته. حتى الإعجاب الذي أخذت أعماله تستثيره في أروبا لم يستطيع أن يعزيه، إذ أدرك أن الناس تبجله، وهو في المنحدر الأخير من غروب حياته. لذلك كانت أغرب قراراته أن أوصى بجميع ممتلكاته لكلبه الوفي الذي سماه أتما (Atma)، أي النفس في اللغة السنسكريتية.

أثر فلسفي كبير

كان أثره عظيماً في الفلسفة الغربية المعاصرة ولا سيما الألمانية. يعترف فرويد نفسه بأن شوبنهاور أول من وضع أسس علم النفس التحليلي. في شأن الجنون، يقر فرويد بأن شوبنهاور سبقه إلى تفسير أصل الظاهرة النفسية هذه، إذ يقول في كتابه "إسهام في تاريخ حركة علم النفس التحليلي" (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع، ص 39): "إن ما يقوله شوبنهاور في الطريقة التي نتصلب بها رافضين القبول بواقع مؤلم إنما يجوز، على وجه الدقة، أن يطابق تعليمي في شأن الكبت". أما نيتشه، فيقر بتأثره العميق بفلسفة الإرادة، ولو أنه حملها على غير المعنى الذي ذهب إليه شوبنهاور أصلاً، إذ حارب الحكمة التزهدية هذه التي ترفض إرادة الحياة، وتزج الإنسان في عدمية الانحطاط المرضي التي تقبح صورة الإنسان وتجعله عبداً خاضعاً لضرورات متافيزيائية لا صلة لها بكرامة الحياة عينها. في جميع الأحوال، يظل شوبنهاور في طليعة الثوار الذين ألهموا فلاسفة التشكيك والمخالفة والانتهاك والخلف، وفي مقدمهم نيتشه وماركس وفرويد.

تظهر فلسفة شوبنهاور في كتابه الأساسي العالم بما هو إرادة وتصور. في اعتقاده أن الإرادة لا يقتصر فعلها على الحياة الإنسانية، بل يصيب كل ميادين الطبيعة. ذلك بأن الشيء في ذاته الذي استقصى كانط جوهره، وماهية الكائنات كلها، إنما هو الإرادة الحرة. لذلك يأخذ على كانط اقتصار تحليله على فعل الإرادة الحرة تفعل فعلها في الطبيعة كلها، والوجود كله، والكون كله. فلا يتورع عن انتقاد كانط: "لم يبلغ كانط بفكره الحد الأقصى، فإذا بي أواصل عمله ليس إلا. في إثر ذلك، ما كان يقوله كانط حصراً في الظاهرة الإنسانية، بسطته أنا على كل ظاهرة من الظواهر عموماً". يخالف شوبنهاور ثنائية ديكارت، إذ يرى في الإرادة المبدأ الأصلي الذي يحرك الكائنات، ويحيي الموجودات، وينشط الحياة. ظل على مثالية كانط، ولكنه أجرى عليها بعض التعديلات. فإذا بالعالم يتحول إلى التصور الذي أنحته أنا عليه. العالم هو ما أتصوره.

من الواضح أن شوبنهاور اصطدم اصطداماً حادا بفلاسفة المثالية الألمانية (فيشته وشلينغ وهيغل)، وعاب عليهم إخضاع الفلسفة لمقاصد اللاهوت وعلوم الدين. في الأصل، يرفض شوبنهاور التمييز الكانطي بين العقل والفاهمة، وينسب كل أعمال الفكر إلى التصور، إذ إن المفاهيم العقلانية كلها ليست سوى "تصورات التصورات" تساعدنا على ضبط المعارف المباشرة وتصنيفها، ولكنها لا تنتج معرفة حقيقية على الإطلاق. لذلك ينبغي محاذرتها، كما يحاذر الرجل المرأة: "ثمة أمر أنثوي في طبيعة العقل، فإنه لا يعطي إلا عندما يكتسب".

تهيمن الإرادة على كل الوجود الطبيعي والإنساني، فتهيئ الإنسان للغوص على معاني الموجودات واستخراج جواهرها التي كان كانط قد حظر على العقل إمكان النفاذ إليها. في صميم الإرادة قوة قاهرة يدعوها شوبنهاور "انعدام العلة" (Grundlosigkeit). ذلك بأن شوبنهاور يرفض مبدأ السببية التي تخرج عن إرادة الإنسان، فيمنح الفعل الإنساني القدرة المطلقة، وينسب إلى الإرادة ثلاث خصائص أساسية: وحدتها الراسخة وخلودها الأبدي وحريتها المطلقة. من جراء رسوخ الإرادة في الكون، يحيا الإنسان في اختبار الخلود الفردي: "انقضى زمن غير محدود قبل ولادتي. فمن كنت إذاً طوال هذا الزمن؟ قد تستطيع المتافيزياء أن تأتي بهذا الجواب: كنت دائماً أنا، أي إن جميع الذين كانوا يقولون أنا، هؤلاء جميعهم كانوا أنا".

الفن حال ارتقاء

يعتصم شوبنهاور بجمالية تهب الوجود رونقه وسحره، إذ إن الفن يرتقي بالإنسان إلى معاينة المثل العليا. في طليعة الفنون الموسيقى التي يعرفها شوبنهاور نسخة أصلية من الإرادة الخلاقة. فإذا به يرتفع بها فوق جميع أصناف الإبداع الفني، إذ إنها تتحدث عن الكينونة وتعاند أسباب الفناء، فتصمد صموداً مذهلاً، في حين أن الكون كله ذاهب إلى الفناء. أما الصفة الأرفع التي ينسبها إليها، فقوله إن العالم تجسيد بهي للموسيقى (verkörperte Musik). ومع أن الموسيقي ڤاغنر كان يستعذب تأملات شوبنهاور الجمالية، إلا أن فيلسوف الإرادة لم يكن يطرب لهذه الموسيقى المضطربة المنزوعة الأحشاء، السليبة الغواية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن الإرادة ليست زهرة فواحة تعطر الوجود الإنساني بعبق أريجها. مأساة الحياة أن هذه الإرادة سريعة العطب تتمايل بين الإثبات (Bejahung) والنفي (Verneinung)، تارة تنتعش وتزهو وتبدع، وتارة أخرى تخبو وتذبل وتغور في العدمية الرهيبة. في بعض نصوص شوبنهاور، يدرك المرء أن سبب انحلال الإرادة المرأة والجنس، وكلاهما موضع ارتباك وقلق. إلا أن شوبنهاور يعترف بأن "قسط المرأة في التناسل هو، على وجه من الوجوه، أبرأ من قسط الرجل. فهذا يمنح الكائن الإرادة التي هي الخطيئة الأولى، ومن ثم مصدر كل شر وكل بلاء، في حين أن تلك تهب الكائن المعرفة التي تفتح سبيل الانعتاق". معنى هذا القول أن الإرادة الإنسانية تميل تارة صوب آدم، وتارة أخرى صوب حواء. في هذا التنازع مأساة الوجود الإنساني، إذ إن كل إنسان يحمل في بنيته الأنثروبولوجية جزءاً من آدم وجزءاً من حواء. يذهب شوبنهاور إلى افتراض المساكنة بين آدم ويسوع: "كل إنسان هو إذاً، بهذه الصفة وبالقوة، آدم على قدر ما هو يسوع".

يؤمن شوبنهاور بوحدة الكائنات الجوهرية التي تحتاج إلى رفق وجودي عظيم حتى يحضنها الإنسان في وداعة الحب الكوني. يستند هذا الرفق إلى أصل ماورائي يجعل كل كائن مشابهاً الكائنات الأخرى في وجوه شتى. لا انعتاق من حيوانية الإنسان إلا بالرفق الذي يوقظ إرادة الخير: "الكائن الإنساني، في عمقه، حيوان متوحش مرعب. غير أننا لا نعرفه إلا كائناً مروضاً مدجناً بواسطة ما ندعوه الحضارة". سبيل الخلاص الانعتاق من الرغبة والتخلق بأخلاق الرفق حتى يشعر الناس بأنهم متضامنون في آلامهم الحتمية: "إن رفقاً لا حدود له تجاه جميع الكائنات الحية إنما هو الضمانة الأرسخ والأثبت من أجل الحفاظ الحسن على الأخلاق". ومن ثم، فإن الإنسان، بالتفلسف والتأمل والتزهد، يستطيع أن ينعتق بعض الانعتاق من إرادة الحياة الجارفة، وينعم ببعض من الهدوء الكياني الذاتي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة