تركت وفاة دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي السابق، إرثاً يختلف حوله كثيرون، فهو وإن كان ثاني أقوى وزير دفاع يشغل هذا المنصب بعد روبرت ماكنمارا وزير الدفاع خلال حرب فيتنام، وأشرف على حرب ضد العراق كان يعتقد أنها ستخلق عالماً أكثر استقراراً وأمناً بعد الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، إلا أن معظم المراقبين يرون أن الولايات المتحدة ما كان يجب أن تخوض هذه الحرب على الإطلاق.
أصغر وأكبر وزير
من النادر أن يتولى شخص منصباً مهماً وحيوياً في واشنطن مرتين غير متتاليتين، لكن رامسفيلد الذي توفي في منزله بولاية نيو مكسيكو عن 88 عاماً، تميز بكونه هذا الشخص، فقد خدم كوزير دفاع الرئيس جيرالد فورد بين عامي 1975 و1977 وكان وقتها أصغر وزير دفاع على رأس البنتاغون، وقد بلغ من العمر 43 عاماً ليقود استراتيجيات الحرب الباردة الأميركية في السبعينيات، وفي ظل صراع نووي محتدم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
ثم تولى هذا المنصب للمرة الثانية في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، في الفترة من 2001 إلى 2006 كأكبر وزير يشغل هذا المنصب، عن عمر 74 عاماً، وفي وقت تعرضت فيه الولايات المتحدة لأول ضربات مباشرة على أراضيها الرئيسة خلال هجمات سبتمبر (أيلول) الإرهابية وما تلاها من حربين قادهما رامسفيلد في أفغانستان والعراق.
عنيد يستمتع بالصراعات
كان رامسفيلد حليفاً قوياً لنائب الرئيس بوش الابن السابق ديك تشيني، والذي كان صديقه الحميم على مدى سنوات، واشتهر بأنه كان يستمتع بالصراعات في تحدي خصومه ومعارضيه داخل الحكومة وبين أعضاء الكونغرس والعسكريين التقليديين.
مثل نظيره خلال حرب فيتنام شن رامسفيلد حرباً مكلفة ومثيرة للانقسام في العراق دمرت حياته السياسية في نهاية المطاف، وظلت تطارده عقب فترة حكمه لسنوات عديدة، ولكن على عكس ماكنمارا، الذي اعترف بأخطاء جسيمة في فيلم وثائقي صدر عام 2003 بعنوان "ضباب الحرب"، لم يعترف رامسفيلد بوجود إخفاقات خطيرة خلال حرب العراق، بل حذر خلال حفل وداع في البنتاغون من أن الانسحاب من العراق سيكون خطأً فادحاً، على الرغم من تيقن الأميركيين أن الحرب استندت على فرضية خطأ، وهي أن الرئيس العراقي صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل.
غير نادم
كان رامسفيلد يعتبر أن استنتاج أعداء الولايات المتحدة أنها تفتقر إلى الإرادة أو العزم على تنفيذ المهام التي تتطلب التضحية والصبر هو أمر خطير مثل اختلال التوازن في القوة العسكرية التقليدية، وفي مذكراته التي صدرت عام 2011، ظل رامسفيلد بعد أكثر من أربع سنوات من تركه منصبه، يعرب عن عدم ندمه على قرار غزو العراق، الذي كلف الولايات المتحدة 700 مليار دولار وحياة 4400 من الجنود والضباط الأميركيين، وأصر بدلاً من ذلك على أن عزل صدام حسين كان كافياً لتبرير هذه الحرب لأنه خلص المنطقة من نظام صدام الوحشي وخلق عالماً أكثر استقراراً وأماناً.
تجنب رامسفيلد ما إذا كانت حرب العراق تسببت في تحويل الاهتمام والموارد الأميركية من أفغانستان، ما أدى إلى عودة طالبان هناك، وفضل القول إن أفغانستان اتخذت، بمساعدة قوات التحالف، بعض خطواتها الواعدة نحو مستقبل أفضل.
مناصب السلطة
لكن حياة دونالد هنري رامسفيلد، الذي ولد في التاسع من يوليو (تموز) عام 1932، في بلدة إيفانستون بولاية إلينوي القريبة من شيكاغو، كانت مليئة بالانتصارات الشخصية، فقد كان والداه من وكلاء العقارات الناجحين، وكان هو طالباً متفوقاً ومغامراً في الكشافة ورياضياً قبل أن يلتحق بجامعة "برينستون" حاصلاً على منح دراسية، ليتخصص في العلوم السياسية، وظل رياضياً كقائد لفرق المصارعة وكرة القدم الأميركية قبل أن يتخرج في عام 1954.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما لبث أن أصبح رامسفيلد طياراً مقاتلاً في البحرية بعد الحرب الكورية، وعندما وصل إلى واشنطن في عام 1957 بدا وكأنه أميركي من الغرب الأوسط حتى النخاع، رجل وسيم بشكل لافت للنظر يشع بالثقة في المهام الكبيرة وقادر على القيام بكل شيء بشكل جيد.
في بداية مشواره في واشنطن، عمل مع اثنين من أعضاء الكونغرس، ثم انتُخب لأربع فترات في مجلس النواب نفسه، ليكتسب خبرات سياسية واسعة مكنته بعد ذلك من ترقي سلم الوظائف القيادية والعمل في إدارات أربعة رؤساء جمهوريين، فقد انتقل من كابيتول هيل إلى مكتب الفرص الاقتصادية في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، ومنها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كسفير، وعاد ليشغل منصب رئيس موظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس جيرالد فورد ثم وزير للدفاع، وعندما تولى الرئيس رونالد ريغان مقاليد السلطة، أصبح مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط، لكنه أيضاً حقق ثروات كمسؤول تنفيذي في شركات الأدوية والإلكترونيات والتكنولوجيا الحيوية الأميركية.
أفكار طموحة
وبصفته وزير دفاع الرئيس بوش، كان رامسفيلد يأمل في تحديث مؤسسة عسكرية عتيقة من خلال القضاء على بيروقراطية البنتاغون المتضخمة، وتبسيط أنظمة الأسلحة، وتطوير درع دفاع صاروخية، وإنشاء قوات أصغر وأكثر قدرة على الحركة بحيث يمكنها التحرك بسرعة في كل أنحاء العالم لإخماد الاضطرابات الإقليمية في القرن الجديد.
لكن خططه المبتكرة ذهبت أدراج الرياح ونسيها الجميع في صباح 11 سبتمبر عام 2001، عندما قاد إرهابيون طائرات ركاب مخطوفة واصطدموا بالبرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي في نيويورك، وفي البنتاغون، ما أسفر عن مقتل ما يقرب من 3000 شخص، بينما سقطت طائرة رابعة في حقل بولاية بنسلفانيا بعد أن حاول الركاب استعادة السيطرة على الطائرة.
أفغانستان والعراق
كان رامسفيلد في مكتبه داخل البنتاغون في ذلك اليوم حيث اهتز المبنى وانهار من جانب واحد، وأثناء إجلاء 20 ألف موظف عسكري ومدني، ساعد في نقل الجرحى إلى سيارات الإسعاف، وأصدر أوامر لحماية القادة، وتفعيل الإجراءات الدفاعية في كل أنحاء البلاد ووضع القوات الأميركية في حالة تأهب في كل أنحاء العالم.
عندما استيقظ الأميركيون على حقبة جديدة محفوفة بالمخاطر، أعلن الرئيس بوش الحرب على الإرهاب، وأصبح رامسفيلد الرئيس المنفذ للخطط الاستراتيجية، وفي الشهر التالي، غزت القوات الأميركية أفغانستان لقمع نظام طالبان المتطرف الذي استضاف تنظيم "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن، الذي اتهمته الإدارة الأميركية بأنه كان العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر.
وفي عام 2003، مع إصرار بوش ونائبه تشيني على أن الرئيس صدام حسين كان متحالفاً مع "القاعدة"، وأنه كان يأوي أسلحة دمار شامل وسيهدد العالم قريباً، نشر رامسفيلد قواته في العراق وسقطت بغداد في ثلاثة أسابيع، وسرعان ما تلاشت المقاومة العسكرية العراقية، لكن هذه الحرب القصيرة أفسحت المجال لصراع طويل وتمرد واسع، وعلى الرغم من القبض على صدام حسين وإعدامه، لكن لم يتم العثور على أسلحة دمار شامل على الإطلاق.
عقيدة رامسفيلد
في أفغانستان والعراق، اعتقد وزير الدفاع أنه لن يحتاج إلا سوى الحد الأدنى من مستويات القوة اللازمة لتحقيق الانتصارات، وهي فكرة عرفت بأنها عقيدة رامسفيلد، لكن منتقديه قالوا إنه لم تكن لديه خطة قابلة للتطبيق لفترة ما بعد الحرب في أي من البلدين، وأن تصميمه على ضرب العراق بقوات خفيفة وسريعة عرقل إمكانية استعادة النظام بعد الحرب واحتواء العنف الطائفي واتساع التمرد.
لكن رامسفيلد عارض هذه الفكرة في مذكراته قائلاً، "إن كثرة القوات قد تضر بقدرتنا على كسب ثقة العراقيين، ويمكن أن يترجم ذلك إلى المزيد من الضحايا، لأن المزيد من القوات يعني المزيد من الأهداف لأعدائنا.
التعرض للهجوم
على مدى السنوات الثلاث التالية، ومع تصاعد عدد الضحايا في صفوف القوات الأميركية وتزايد القلق في الرأي العام الأميركي، دفع العنف الطائفي العراق إلى شفير حرب أهلية بل تصور البعض أن هزيمة لا يمكن تصورها للأميركيين قد تحدث في النهاية.
جسد رامسفيلد ما وصفه النقاد بسوء تقدير الإدارة الأميركية وغطرستها في الحرب التي سارت بشكل خطأ، واتهمه الخبراء والعسكريون السابقون والصحافة برفض الاعتراف بالأخطاء أو تغيير الاتجاه، والتباطؤ في تبني تكتيكات مكافحة التمرد، والاعتماد على دائرة مغلقة من المستشارين المتشددين.
وإلى جانب سلوكه في الحرب، واجه رامسفيلد انتقادات واسعة على المستوى السياسي، بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان ولجنة من الحزبين في مجلس الشيوخ، وطالب بعضهم بأن يواجه اتهامات جنائية لقراراته التي أدت إلى إساءة معاملة المعتقلين في سجن "أبو غريب" بالقرب من بغداد، وفي معسكر اعتقال "خليج غوانتانامو" في كوبا، لكن رامسفيلد ألقى في مذكراته باللوم على مجموعة صغيرة من حراس السجن، وقال إنه يأسف لعدم استقالته في أعقاب الفضيحة، وأنه عرض الاستقالة مرتين، لكن بوش رفض، كما قال إن أساليب الاستجواب التي سمح بها كانت أقل تطرفاً من بعض الأساليب التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
التخلي عن رامسفيلد
ومع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس لعام 2006، ودخول الحرب عامها الرابع واستمرار شعور الرأي العام بالإحباط، استعد بوش للتخلي عن رامسفيلد، الذي أصبح نقطة انطلاق خصومه لانتقاد الحرب، ودعت مجموعة إلى إقالته بمن فيهم عدد من الجمهوريين وكبار المسؤولين العسكريين، وعلى الرغم من دعم بوش في البداية لرامسفيلد فإنه بعد سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس، أعلن استقالة رامسفيلد وعين روبرت غيتس، المدير السابق للاستخبارات المركزية، خلفاً له.
متحدياً حتى النهاية
ومع ذلك، فقد أعطى الخبراء العسكريون رامسفيلد درجات عالية في فترة ولايته الأولى في البنتاغون، بسبب محاولته تحديث الجيش في فترة رئاسته الثانية، لكنهم حملوه المسؤولية في طريقة تعامله مع حرب العراق، وعن إساءة معاملة السجناء، وقالوا إن أسلوبه المتسلط عزله عن زملائه.
لكن رامسفيلد ظل على الرغم من كل الأنواء التي عصفت به عنيداً متحدياً حتى النهاية بقوله، "لقد استفدت كثيراً من الانتقادات"، لكنه استطرد مستحضراً مقولة ونستون تشرشل في اليوم الذي استقال فيه، "ولم أعانِ في أي وقت".