"أحكي لكم عن وقت
من أعمارهم أقل من عشرين عاماً لا يعلمون عنه شيئاً،
حين كان "مونمارت" يعلق ليلكه على شبابيك غرفنا
غرفنا الفقيرة التي كانت عشاً لنا
حين كنا نلتقي".
بهذا الفائض من الحنين، بدأ المغني الفرنسي تشارلز أزنافور رائعته "البوهيمي" عام 1965 مستحضراً روح حي مونمارت الباريسي حين كان ينبض بالحب، بالبساطة، والفن الحقيقي.
هذه الأغنية، وبعد أكثر من نصف قرن، ما زالت قادرة على السفر بالقلوب بعيداً إلى سفوح البوهيمية في مونمارت، لتعيش طقوس الحياة على فطرتها مع شخوصه الفوضويين والمبدعين.
ولكن، هل أضاع مونمارت بوهيميته؟
لا يمكن أن تأتي الإجابة على عجل، فحي مثل مونمارت، يستحق أن ننبش في ماضيه البعيد جداً، لنكون قادرين على الحديث عنه اليوم.
من قرية فقيرة إلى حي برجوازي
قبل عام 1860 كان مونمارت بلدية مستقلة خارج باريس.. شوارعها، أزقتها، وكل الساحات والأماكن فيها، تبدو وكأنها مجتزأة من قرية فقيرة، أهلها وسكانها من المعدمين جداً.
هي قرية جبلية تطل على أحياء العاصمة، لكنها ـ أي مونمارت تبدو وكأنها خارج المكان وقد نسيها الزمان.. ومن حسن الحظ أن التاريخ احتفظ لنا ببعض الصور الفوتوغرافية واللوحات المرسومة بأيدي فنانين عايشوا تلك الفترة من الزمن، والتي أرشفت حال القرية قبل قرنين تقريباً: شوارعها ضيقة وغير مرصوفة، البيوت صغيرة جداً ومبنية بمواد بسيطة جداً، حدائق كبيرة وكروم عنب على اتساع النظر بينما كانت الدجاجات ومن خلفها صيصانها حاضرة في معظم اللقطات.
في عام 1860، ألحقت بلدية مونمارت بالعاصمة باريس بشكل رسمي، وتحولت إلى حي مفصلي ومؤثر في الأحداث السياسية والفكرية التي عاشها الفرنسيون في عاصمتهم. بدأ التأثير بسيطاً مع مظاهرات واعتصامات متواضعة للمطالبة بتوفير شروط معيشية أفضل للسكان، لكنه تجذر إلى أن أصبح أكثر عمقاً مع أحداث كومونة باريس عام 1871، حيث تحولت شوارعه وقتها إلى ساحة معركة دامية وموجعة واجه فيها الباريسيون بشراسة لا مثيل لها، حكومتهم التي رفضوا الإذعان لأوامرها على خلفية قرار إنهاء الحرب مع مملكة بروسيا.
خلال أحداث الكومونة سجل مونمارت انتصاراً للطبقات الشعبية في مواجهة السياسيين غير الآبهين بفقر أبناء المجتمع. لقد أنهكت الحرب ضد بروسيا، سكان هذا الحي وغيرهم من سكان الأحياء المعدمة والمهمشة مثل بيلفيل، فكانت الثورة مرة أخرى، وسيلة ناجحة لتقرير مصير باريس وكل فرنسا.
ما حدث في مونمارت وقتها يعكس بصدق، التضامن الشعبي العميق بين سكانه. النساء والرجال والأطفال جنباً إلى جنب في مواجهة الجيش الحكومي، إضراب عام وقتال استبسل فيه أهل مونمارت ببنادقهم المتواضعة.
بعد الكومونة، تحول مونمارت إلى أيقونة للإرادة الشعبية رغم بساطة الحياة فيه، وتصاعدت شهرته مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليس كمسرح لثورة الطبقات الكادحة فحسب، وإنما أيضاً، كمهد للفن العالمي بأعلامه وأسمائه الكبيرة جداً.
استقطبت منازله ذات الإيجار الرخيص جداً، الفنانين والأدباء والمفكرين في بداياتهم. كانت مناسبة لتتحول إلى مساكن ومراسم وورشات عمل، وتحولت المقاهي إلى مكان يعقدون فيه ندواتهم العفوية، الخارجة عن المألوف والتي حددت مصير الفنون والآداب لقرن وأكثر. بابلو بيكاسو، وفينسينت فان جوخ، وإميل زولا، وداليدا وآخرون، لطالما ساروا في شوارعه، وشربوا القهوة على مقاعد مقاهيه.
مع ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ التحول يسري في حارات هذا الحي العتيق، هدمت معظم البيوت القديمة فيه وأزيلت الحدائق وكروم العنب حتى لم يبق سوى كرم واحد وأخير. في المقابل، بنيت منازل جديدة بمواصفات أكثر فخامة وتناسب طبقة البرجوازيين الذين بدؤوا يسكنونه.
اليوم، مونمارت حي باريسي يفيض بالبرجوازية، كل شيء فيه باهظ الثمن. كان حياً فنياً، شعبياً وفقيراً، فغدا سياحياً غنياً جداً، حتى الفن فيه، بات عابراً، ما يهم أن تدفع مقابل لوحة، أي لوحة كانت... كانوا يأكلون لكي يرسموا، لكنهم صاروا يرسمون لكي يأكلوا، وما بين الحالتين فرق شاسع من التحول السياسي والاقتصادي والفكري، عمره عشرات السنين.
ورغم غرابة هذا التحول، مونمارت ما زال ساحراً وستظل أرواح من رحلوا تعيش فيه...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مونمارت يرسم خريطته بنفسه
باريس لا تكون هي من دون مونمارت الذي تحوم حول تسميته الكثير من الأساطير، يعود بعضها لأيام الرومان، في حين لم يحسم التاريخ الجدال بعد.
هذا الحي التاريخي هو الأكثر ارتفاعاً في المدينة، يطل على أحيائها الشمالية ويقع في دائرتها الثامنة عشرة. وتراه كل يوم ينتظر بهدوء زواره ليقص عليهم حكاياته العتيقة والخالدة.
الرحلة إلى مونمارت من الأفضل أن تبدأ بالطلوع إلى "القلب المقدس"، درجات كثيرة ومتعبة للوصول إلى هذه الكنيسة التي بنيت بعد أحداث كومونة باريس لتصبح بوابة الحي الرئيسة وحارسته الأبدية. بالإمكان طبعاً الركوب في المصعد الكهربائي المتحرك لتفادي التعب، لكن في مثل هذه الحالات، ننصح ببذل الجهد الكبير، لأن ما ينتظرك في الأعلى يستحق بالفعل، وستستمتع به أكثر بعد تعب، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن "القلب المقدس" وإنما عن تلك الصورة البانورامية المذهلة التي ستلتقطها بعينيك قبل كاميراتك لمدينة الأنوار من أعلى..
نتجه بعد "القلب المقدس" يساراً، فتأخذنا الأزقة الملتوية إلى "بلاس دو تيرتر" التي تعني باللغة الفرنسية "ساحة التل"، المقاهي هناك تفرد مقاعدها وطاولاتها على الأرض كل يوم، ليجلس عليها الناس دون أن يرهقهم الوقت، فكل ما يهم لحظتها هو المكان.
في ساحة التل أيضاً، رسامون يحملون وجوهاً غريبة في لوحاتهم، ويتجولون بين الجالسين والمارين ليقنعوا وجوهاً غريبة أخرى بأن ترتسم على لوحات بيضاء فارغة. التجربة هنا لا تضر، على العكس تماماً، ستشعر وكأنك أصبحت وجهاً خالداً من وجوه المكان.
لا يعترف حي مونمارت بالخرائط المرسومة على الورق، فمهما حاولت ونظمت برنامجاً لجولتك قبلها بوقت، ما إن تدوس بقدمك على أول الطريق، ستدعه هو يكمل، إنه يعرف كيف يرسم خارطته بنفسه. حينها، ستبدأ بمواعدة البوهيمية التي تحدث عنها تشارلز أزنافور في أغنيته، أو على الأقل، ما بقي من أثرها.
ما يفعله مونمارت بنا أثناء المشي فيه، لا يستطيع أن يفعله أي متحف في العالم مهما بلغ قدم مقتنياته، فمونمارت أرشيفه خارج أي إطار، ولا يحرسه رجال الأمن ليمنعوك من اللمس أو الاقتراب. إنه يلقي بذاكرته في كل زواياه، يتيحها لنا كل يوم، وبإمكانك أن تلمس وتستنشق كما تشاء، المشكلة الوحيدة هي أنك لن تكتفي أبداً.
ستمشي فيه وتتوقف عند بناء يحمل رقم 49، سترفع رأسك إلى الأعلى وتجد مكتوباً على لوحة ذهبية "هنا أول بيت لبابلو بيكاسو في باريس"، ياله من موقف! غريب، تتصارع فيه الرهبة مع العشق مع الحنين، ولن تفهمه أبداً.
بعد زقاق أو اثنين ربما، يوجد مبنى اسمه "باتو لافوار"، هو معرض ومرسم تشاركه أشهر الفنانين العالميين الذي عاشوا وبدؤوا في باريس. إذا بحثت أكثر في الشوارع، ستلتقي ببعض من داليدا، ستشاهد "مولان دو جالت" التي خلدها فينسينت فان جوخ في لوحته الشهيرة، "الطاحونة الحمراء" أيضاً، تنتظرك في مونمارت، ما زالت جذابة تلمع في النهار وفي الليل، كذلك ما زال "لا ميزون روز" هناك، ذلك المطعم باللون الوردي الذي تؤرشف جدرانه كل الشخصيات التي زارته، حين كان مكاناً متواضعاً وحين صار برجوازياً...
خلال المشي ستطالعك محلات بيع الهدايا التذكارية، معظمها لن يستوقفك أبداً، لكنك حتماً، ستحدق في عدد قليل منها دون أن تدري لماذا في البداية، لكنك ستدهش عندما تدرك أن رائحتها هي التي أوقفتك، فهي قطع نادرة كانت قبل 100 عام تقريباً، ملكاً لشخص ما، عاش في مونمارت أو كان مجرد عابر سبيل...
منتصف الليل، مونمارت
جولتنا في حي مونمارت التاريخي، اكتملت مع جوليان دلمير، الروائي الفرنسي الذي حازت روايته "منتصف الليل، مونمارت" الصادرة عام 2017، على نجاح كبير في المكتبات الفرنسية، حيث تناولها كل الذين يتوقون للبحث في هذا الحي الباريسي المثير، والمشتاقون إلى زمن مونمارت البوهيمي.
تحكي رواية دلمير عن سيدة ذات أصول سنغالية اسمها ماسيدا، وهي شخصية حقيقية تأتي إلى باريس في بدايات القرن الماضي وتستقر في مونمارت، طرقت باب الفنان تيوفيل ألكسندر شتاينلين، فرحب بها وأصبحت حبيبته وعارضته وموضوع لوحاته. ومع ماسيدا ودلمير نذهب بين الصفحات، حدثاً تلو الآخر، مستكشفين الحي، ندخل بيوته ونسكنها، نمشي في الحارات، نعيش الطقس في أماكن السهر ونعاين عن قرب عالماً شغله الفنانون، وأخيراً ندقق في الوجوه ونحفظ ملامحها.
يخبر دلمير "اندبندنت عربية"، أنه عند تناوله في روايته حياة شخوص حقيقية عاشوا في حقبة زمنية بعيدة، اعتمد على عدد من الوثائق والكتب التاريخية التي تحدثت عن حي مونمارت في تلك الفترة الخاصة جداً، وحلل الكثير من اللوحات والرسومات التي رسمها شتايتلن لماسيدا وللحي أيضاً.
وكما هي وظيفة كل روائي، ابتكر عناصر وشخصيات عدة، لأنه لم يستطع أن يعرف كل شيء عن حياة ماسيدا، فيوضح: "دعونا نقول إن "منتصف الليل، مونمارت" هي عمل خيال تاريخي، يبدأ من أحداث حقيقية حصلت بالفعل، لكنه يتيح المجال كثيراً، أمام التخيل".
نكمل الحديث مع دلمير عن مونمارت نفسه بين الماضي والحاضر، كيف أصبح، وأين شخصياته الفوضوية والمهمشة التي قرأناها في الرواية؟ فيجيب مؤلفنا بعد تنهد عميق: "من الواضح أن مونمارت عام 1910 ليس هو نفسه اليوم، لكن الدائرة الثامنة عشرة لباريس، لا سيما على جانب باربي وبورت دو لا شابيل، لا تزال واحدة من آخر أحياء الطبقة العاملة في المدينة. منطقة عالمية، حيث يلتقي الناس من جميع الأصول، ولكن أيضاً، للأسف، هي منطقة دعارة تنتشر فيها المخدرات بكثرة. لذا، نعم، لا تزال الروح "الفوضوية" والشعبية لمونمارت موجودة وحاضرة، ولكن غاب عنها الانفعال الفني الذي جعل مونمارت مكاناً فريداً، ومرتعاً للإبداع والاختراع. اليوم، لم نعد نخترع كثيراً في مونمارت، فنحن نعيد تدوير الماضي ونبيع صورة قديمة، وقد مرت فترة طويلة منذ أن طار "عبقري" مونمارت بعيداً".
ودلمير ككاتب لا يستطيع إلا أن ينحاز إلى مونمارت الذي كان في بداية القرن العشرين، حيث عاش كل تفاصيله في أحلامه أثناء كتابة الرواية. إنه يؤكد أن الحي في ذلك الوقت، عرف ببؤسه وقسوته على الناس الضعفاء، لكن من غير المنصف ألا نتحدث عن روح التضامن التي جمعت بين ساكنيه القدماء، وعن شاعرية علاقاته. ويؤكد بما لا يقبل الشك، أن مونمارت الحالي، من الواضح أنه بشكله البرجوازي والسياحي لا يثير اهتمامه أبداً، وربما هو لن يكتب أبداً، رواية ستحدث في مونمارت القرن الحادي والعشرين".
يختتم دلمير حديثه فيقول: "اليوم يبدو واضحاً، أن مونمارت فقد روحه البوهيمية. بالطبع، لا يوجد بوهيمي يستطيع أن يسكنه ويدفع إيجاراته الباهظة، ولم يعد بإمكان فنان شاب يبدأ مسيرته، أن يعيش فيه. لذا فإن الفكر البوهيمي الذي يقوم على التضامن والتكاتف بين الفنانين المفلسين، لم يعد له مكان في مونمارت الحالية".
أما نحن، فنختم حديثنا عن مونمارت، كما بدأناه، مع تشارلز أزنافور، وهذه المرة من ختام أغنيته:
أحياناً... أمشي دون تفكير
إلى عنواني القديم
لم أعد أعرف المكان... لا الشوارع... لا الجدران
تلك التي عاشت شبابي
في نهاية درج ما
أبحث عن مرسم
لم يبق منه شيء
مونمارت الجديد حزين والليلك قد مات".