Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية البوظة الشامية... من جبل الشيخ إلى القارة الباردة

في أواخر القرن الـ 18 طالبت دول أوروبية وغيرها من "مؤسس الصنعة" أن يرسل "محترفين" يدربون عمالها

توافد كثيف على البوظة العربية الشامية (اندبندنت عربية)

لم يعد "بكداش" مُجرد متجر صغير يرتاده السياح ويشهد إقبال الدمشقيين، رغبة منهم في إرواء عطشهم والتلذذ بطعم البوظة الشامية في فصل الصيف، بل تحول المكان إلى "ذاكرة شعبية" دمشقية بامتياز.

 تأسرك روح المكان العائد لأواخر القرن الـ 18 ميلادي، وهو تاريخ الافتتاح لكمٍّ من الذكريات المثبتة على الجدران عبر لوحات تحكي حكايات دمشق وأهلها، مع صور ملتقطة حديثاً لأشهر القادة والملوك والشخصيات السياسية ومشاهير الفن، ليتحول المكان، بكل تفاصيله، إلى معلم من معالم المدينة.
فرحة الإنتاج
وأمام جرن حديدي، يقف شاب ممسكاً بيده عصا خشبية، يهوي بها إلى داخل الجرن. وبعد ضربات متتالية، يخرج منه قطعة كبيرة من البوظة، ومن دون تهاون، يحرص الحاج موفق بكداش صاحب محل البوظة الشامية في سوق الحميدية في دمشق القديمة، على الإشراف المباشر على حسن سير الإنتاج اليدوي.

 وتجذبك أجواء المكان للتحديق باللوحات القديمة وبالزجاج الذي يغطي جدران المكان المتداخل بالخشب العتيق والعائد إلى أكثر من قرن من الزمن، وحرص الأبناء بعدما ورثوه عن أبيهم أن يُبقوا على شكل المحل ومكانته منذ تأسيسه، ليجلس صاحب محل "بكداش"، الرجل السبعيني، على كرسي من الخيزران راوياً حكاية تأسيس أبيه صنعة البوظة، ويكشف لنا سر شهرته.

الفكرة والابتكار

اجتهد محمد حمدي بكداش، مؤسس صالون ومتجر البوظة الشامية، ليكتشف البوظة عبر إضافات عدة، منها نبتة السحلب التي تنبت في قمم الجبال ولم يعرفها الدمشقيون قبلاً إلى جانب الحليب الطازج، وهو المكون الأساسي، إلى أن توصل لصنع البوظة بإمكانات مذهلة وطريقة فريدة، معلناً على الملأ عن إبداع سوري بامتياز.

ووسط دهشة الحضور، افتتح بكداش الأب محله في العام 1895، وهو بعمر الـ 28 عاماً، بحضور عشرة آلاف شخص وعدد كبير من الأعيان والشخصيات المرموقة في مدينة دمشق، وواليها ناظم باشا، واعتُبر أكبر المحال في سوريا على الإطلاق، إذ أنتج المحل عدداً من المأكولات الأخرى مثل كشك الأمراء والمحلاية والرز بحليب والسحلب والكعب والبالوظة بالبرتقال والبوظة على أنواعها من الفواكه الدمشقية الخالصة.

 

سر الصنعة

لا يتعدى عن كونه محلاً عادياً ضمن سوق الحميدية المسقوف، يوصل بنهايته إلى الجامع الأموي الكبير، ومعه إلى أحياء الشام القديمة، لكنه ارتبط بحياة الدمشقيين ومشاويرهم صيفاً، وتأصل بتاريخهم وذاكرتهم الشعبية، إلا أن البوظة الشامية انتزعت مكانتها بتقديم الأطباق الباردة التي تحتوي على الحليب الطازج مع القشطة البلدية، مضيفاً إليها الفستق الحلبي الممتاز، ويصنع عمال المحل البوظة مضيفين إليها أنواعاً من الفاكهة الشامية الأصلية مثل الفريز والتوت الشامي والبرتقال والمشمش.

مغارة جبل الشيخ

فور انتهاء بكداش الأب من صناعة البوظة بشكلها النهائي، كان يواجهه التحدي الأكبر، وهو كيفية المحافظة على درجة البرودة لتقديم ما صنعه صيفاً إلى الدمشقيين. في ذلك الوقت، كان يُسرج خيوله مع العربات، وبرفقة العمال، يتوجه إلى أعالي الجبال الشاهقة نحو جبل الشيخ، حيث البرودة الشديدة التي تناسب منتجه.

وكان يستأجر المغاور الكبيرة ويرممها ويجهزها لإنزال ما صنعه من البوظة الباردة، ويطلب من الفلاحين والعمال هناك أن يحشوا المغارة بالثلج ويغلقوها بالطين، مع حرصه أن يكون اتجاه المغارات التي يستأجرها شمالاً، كي لا تصلها أشعة الشمس، ويأتي بالثلج مطلع الصيف على ظهر الحمير، فينزله الفلاحون ويضعونه داخل المغارات المستأجرة للحفاظ على درجة برودة البوظة.

برميل البارود!

بعد ذلك، اشترى من الجيش براميل البارود وهي من الخشب ليعيد تأهيلها،  فيدخل بها ترامبات نحاسية تاركاً مسافة بين النحاس والخشب، وبعد الانتهاء من تحضيرها، يضع كميات الثلج ليغطي الفارق بين النحاس والخشب على دائر محيط البرميل.

 ومع دخول الكهرباء إلى دمشق في العام 1930، أدخل معها مؤسس البوظة الشامية صناعات تجميد البوظة، وقال الحاج موفق "كنا أول من صنع هذه الآليات، أول محرك انطلق نحو مصر فلبنان وثالث محرك أرسل إلى إيطاليا، كأول محرك تبريدي دخل من سوريا، وكانوا يستعملون عدداً من أنواع الفيول لتشغيلها، ولا تزال الشركات الإيطالية تحتفظ بتسجيل أول محرك تبريدي من سوريا، هو من متاجرنا".

إلى القارة الباردة

مع افتتاح المتجر في أواخر القرن الـ 18، طالبت دول عدة من "بكداش" أن يرسل لها "صانعي البوظة " لتدريب عمال تلك الدول على الصنعة الجديدة، وجاء ذلك عبر سفراء حضروا وتذوقوا لذة منتج المحل الفريد والوحيد في سوريا، ومنهم سفراء بريطانيا وإيطاليا وحتى سفير روسيا الاتحادية.

وتلبية للطلب، "ذهب عدد كبير من العمال إلى تلك الدول، لتعليم العمال هناك على صناعة البوظة، حتى ظل عدد منهم في تلك الدول واستقروا وتزوجوا وإلى الآن يتواصل أبناؤهم وأحفادهم معنا"، على حد قول حمدي بكداش.

كما حضر وفد إيطالي طالباً إرسال عمال إلى إيطاليا لتعليمهم تحضير البوظة.  وطلبت فرنسا في العام 1897 إرسال خبراء في صنع البوظة، وبالفعل ذهب عدد من العمال وافتتحوا أكبر محل سُميَ بالبوظة الشامية العربية، واستقروا في فرنسا منذ ذلك الوقت.

السلطان العثماني

ولا ينسى موفق بكداش الذي يدير محله، أن أول العمال الذين انطلقوا إلى خارج دمشق بعد تأسيس هذه الصنعة، توجهوا إلى إسطنبول وأنقرة في العام 1896، بناءً على طلب من الوالي ناظم باشا، بعدما وصلت شهرتها إلى السلطان العثماني، عبد الحميد.

 وقول الحاج موفق "لقد طلب السلطان عبد الحميد العمال وأرسل خيولاً وعرباتٍ من تركيا لهذا الغرض، واتجه بالخيول السلطانية إليهم، وقد أرسل والدي ما يقارب ثمانية عمال إلى تركيا، توزعوا بين أنقرة واسطنبول وفتحوا في العام 1897 ثلاثة متاجر في اسطنبول واثنَيْن في أنقرة، وظل العمال هناك وأطلقوا عليهم كنية عائلة بكداش".

الأعراس والحفلات

معظم حفلات مدينة دمشق من أعراس ومهرجانات طلبت وقتها البوظة، ونتيجة الطلب الكبير حينها، طوّر بكداش عمله ليأتي ببراميل خشب بحجم أصغر مع ترامبات نحاسية، لإرسالها إلى البيوت. ولا يخفي صاحب محل بكداش ما تحلى به مؤسس الحرفة الشامية من كرم وجود، وذلك لإرساله البراميل المعبأة بالبوظة لكل عرس فقير، فاتحاً باب المحال وصالونه الواسع، حتى لإقامة حفل الزفاف، إذا لم تكن حال العريسَيْن ميسورة.

الحفاظ على التراث

اليوم وبعدما أصبحت متاجر "بكداش" مرجعاً وتاريخاً في صناعة البوظة الأصيلة، يفتخر صاحب محل "بكداش" بأنه كان من أوائل صانعي البوظة وبنشر هذه "الحرفة اللذيذة" إلى العالم عبر العمال "المهرة". ورداً على سؤال حول سر محافظتهم على شهرتهم بصنع البوظة بالحليب الطازج والسحلب الأصلي وماء الزهر والمسك، قال "لا نزال حتى اليوم متمسكين بالطراز القديم، لتبقى البوظة الشامية العربية ذات تراث وفولكلور سوري، انتشر إلى القارة الباردة، على مر السنين".

المزيد من العالم العربي