Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية سليم العشي الذي أدهش بغموضه بيروت الخمسينيات

الروائي المصري سامح الجباس جمع معلومات ووثائق وكشف أسرار هذه الشخصية الفريدة

سليم العشي او الدكتور "داهش" بريشة الرسامة ماري حداد (مجموعة ماري حداد)

حين تتخذ رواية من شخصية تاريخية موضوعاً لها، يكون عليها أن توازن بين الإخلاص للحقيقة التاريخية، من جهة، وعدم خيانة الفن الروائي، من جهة ثانية. ذلك لأن عدم الإخلاص للأولى يطيح بتاريخية الشخصية، وخيانة الثاني يجعل الرواية مجرد نص تاريخي. وفي الحالتين، ثمة ظلم يقع على أحد طرفي الموازنة، على الأقل.

من هذه العتبة، ندخل عالم رواية "رابطة كارهي سليم العشي" للروائي المصري سامح الجباس (دار العين للنشر) التي تتخذ من شخصية اللبناني سليم العشي المعروف بالدكتور داهش موضوعاً لها. وهي شخصية غامضة، مثيرة للجدل، تكتنفها الأسرار والألغاز، وتنسب إليها الخوارق والأعاجيب. ولعلها المرة الأولى التي تميط فيها رواية اللثام عن هذه الشخصية.

وقائع تاريخية

على المستوى التاريخي، يقوم الجباس ببحث حول الشخصية، يقوده إلى مجموعة من الوقائع التاريخية التي تشكل مادة أولية لروايته، ويضيف إليها مقادير معينة من التوابل المتخيلة، ويصب هذا الخليط في قوالب روائية معينة. ومن الوقائع: ولادة سليم العشي في بيت لحم في عام 1909 لأسرة عراقية الأصل، انتقال الأسرة إلى بيروت في عام 1911، تغيير اسمه في عام 1929، منحه شهادة العلوم النفسية من الجمعية النفسية الدولية وشهادة الدكتوراه من معهد "ساج" الإنجليزي في باريس في عام 1930، إعلانه رسالته الروحية في عام 1942، اعتقاله وتجريده من الجنسية اللبنانية ونفيه في عام 1944، إعدام أحد سيالاته الروحية في طهران بتهمة التجسس في عام 1947، رحلته الأولى حول العالم في عام 1969، مغادرته لبنان مؤقتاً في عام 1975، مغادرته نهائياً في عام 1980، وموته في مستشفى نيويوركي في عام 1984. هذه الوقائع التاريخية وغيرها، يقوم الكاتب بردم الفجوات بينها، بما سمع ورأى وقرأ وسأل وتخيل وتذكر، ويبني من ذلك كله روايته.

سلكان روائيان

على المستوى الروائي، يصطنع الجباس سلكين اثنين ينتظمان الأحداث، ويتناوبان الحضور النصي، في إطار علاقة جدلية، متعددة الثنائيات، بينهما. تقوم على التعاقب والتوازي والتقاطع؛  السلك الأول خارجي، يشكل إطاراً للثاني، يحدث في الزمن الحاضر، وتدور أحداثه بين القاهرة وبيروت، ويربط بين الكاتب الذي يجعل من نفسه شخصية روائية تقوم بالتحضير للرواية وتجميع مادتها من البحث النظري والعمل الميداني تمهيداً لكتابتها، والفتاة اللبنانية فاطمة مندوبة المركز الثقافي النيويوركي الذي يعهد إليه بكتابة الرواية. والراوي في هذا السلك هو الروائي نفسه بعد تحوله إلى شخصية روائية.

السلك الثاني داخلي، يشكل محتوى للأول، يحدث في الزمن الماضي لا سيما في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وتدور معظم أحداثه في بيروت، ويدور بعضها في غير مدينة عربية وأجنبية، وينخرط فيه مجموعة من الشخوص الذين يؤمنون بداهش والداهشية، ويدلون بشهاداتهم فيه، ويشكل كل منهم راوياً لشهادته، وعدد الرواة في هذا السلك سبعة رواة. وبذلك، نكون، أمام ثمانية أصوات روائية، يستأثر صوت الروائي بينهم بحوالى نصف النص، بينما يتوزع النصف الآخر على السبعة الآخرين، مع العلم أن جوهر الرواية يكمن في هذا النصف الثاني. ولعل اختيار هذه الأصوات الروائية من بين أتباع الدكتور داهش يطرح مدى ملاءمة العنوان للمتن، فالأولى أن يكون العنوان "رابطة محبي سليم العشي" لا رابطة كارهيه الذين لا يحضرون في الرواية بشكل مباشر.   

السلك الإطار

يتخذ الجباس من نفسه راوياً للسلك الإطار وأحد بطليه؛ فتقوم علاقة بينه وبين فاطمة مندوبة المركز الثقافي، تنطلق من واقعة تكليفه بكتابة الرواية وقبوله المهمة، وتنتهي بواقعة حب بينهما، تبلغ ذروتها في نهاية السلك، حين ترتقي إلى مرتبة الإيمان به، وترى فيه صورة سليم العشي الذي انتظرته طويلاً، لا سيما حين ترى أحد سيالاته الروحية وقد خرج منه. تعبر عن ذلك بالقول: "كم انتظرتك كثيراً...يا سـ.. سليم!" (ص 428). فهل يكون داهش تقمص في الراوي، وهل تكون إحدى المؤمنات به تقمصت في فاطمة؟ وبين الواقعتين سلسلة من الوقائع، تتمظهر في انتقال الراوي/ الروائي من القاهرة إلى بيروت، ونزوله في أحد فنادقها واختلافه إلى بيت الدكتور داهش وقراءة صوره والبحث في مكتبته والتعقيب على شهادات الشهود، في جمع مفيد بين البحث النظري والعمل الميداني والتعقيب النصي، من جهة، وتتمظهر في قيام فاطمة على تأمين إقامة المكلف وتنقله وتزويده بما يسهل مهمته، فتجمع بين الإشراف الإداري والعمل الميداني، من جهة ثانية. وخلال تنفيذ هذه المهمة المشتركة، تمر العلاقة بين المكلف والمكلف بتجاذبات معينة، ويشوبها الخوف والقلق والحذر، لكن الحب يتغلب على هذه الشوائب، في نهاية المطاف.

السلك المحتوى

إذا كان السلك الأول هو الإطار الذي يهتم بالأعمال التحضيرية للرواية، من بحوث وزيارات ولقاءات، فإن السلك الثاني هو المحتوى الذي يروي سيرة سليم العشي، ويمثل النتائج التي يتمخض عنها ويؤطرها السلك الأول. وفيه يقوم الكاتب بتوزيع ما توصل إليه على سبعة شخوص حقيقية، هم من أقرب المقربين إلى العشي وأول المؤمنين به، ولم يتورع بعضهم عن دفع الأثمان الباهظة في سبيل إيمانه؛ وجميعهم من النخبة الاجتماعية، فنجد بينهم الأديبة الرسامة (ماري حداد)، والشاعر (حليم دموس)، والطبيب (جورج خبصا)، والأستاذ الجامعي (غازي براكس). وجميعهم من شهود العيان المنخرطين في التجربة الروحية. على أن ما يجمع بين الشهادات المختلفة، في المضمون، هو: كيفية التعرف إلى الشخصية، درجة التأثر بها، حضور جلساتها الروحية، معاينة الأعاجيب الصادرة عنها، طرح الأسئلة الكبرى، ودحض الافتراءات والاتهامات الموجهة إليها. أما، في الشكل، فيتجاور في هذه الشهادات: النبذة الذاتية، والشهادة، والخبر، والمقال، والقصيدة، والخاطرة، والمقابلة، والتحقيق، والتعليق، والوصية، والتوثيق التاريخي، وغيرها. وبذلك، نكون أمام نص متنوع، في الشكل والمضمون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من خلال الشهادات المتنوعة التي يضعها الكاتب على ألسنة الشهود، يمكن رسم شخصية صاحب الرسالة من الخارج والداخل، والوقوف على أهم معتقدات هذه الرسالة. فصاحب الرسالة يجمع قدرات خارقة ينسب اجتماعها فيه إلى الله؛ ومنها: شفاء المريض، استحضار الغائب، التنبؤ بالمستقبل، العلم بالغيب، التواجد في أكثر من مكان في الوقت نفسه، وغيرها. أما الرسالة، فتقول بخلود الروح والتقمص ووحدة الأديان في الجوهر، ولا تقول بالشعائر التي ابتدعها رجال الدين لأغراض في نفوسهم. ولعل هذه المعتقدات معطوفة على الخوارق المنسوبة إلى صاحبها ألبت غضب السلطتين السياسية والدينية عليه، فتم اعتقاله وتجريده من جنسيته ونفيه والاعتداء عليه، وجرى التنكيل ببعض أتباعه. وهكذا، يكون سامح الجباس الروائي قد اتخذ من الخارق والغرائبي موضوعاً لروايته، مما يفتح الأفق التاريخي الذي تنطلق منه على الواقعية السحرية. ويكون سامح جباس الباحث، من خلال دور المعقب الذي أسنده إلى قناعه الروائي، قد طرح الأسئلة وعقد المقارنات وقدم التعليقات، ما يفتح الرواية على البحث التاريخي/ الأدبي.

ولعل أهم ما تتمخض عنه هذه التقنيات من نتائج هو الإيحاء بأن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وسواهما من الأدباء المصريين قد تأثروا بشخصية داهش في بعض أعمالهم السردية، وأن هذا الأخير قد تأثر بجبران خليل جبران وأحمد أمين في بعض ما كتب. إلا أن الكاتب لا يصرح بهذه النتائج بل يلمح إليها من خلال طرح الأسئلة وعقد المقارنات. وإذا كانت الشهادات التي أسند الإدلاء بها إلى شخصيات تاريخية حقيقية تشتمل على الكثير من الخوارق التي تجافي العقل والمنطق، فإن التعقيبات التي أسند القيام بها إلى قناعه الروائي، تطرح كثيراً من الأسئلة التي يطرحها العقل والمنطق. وبذلك، يجمع الكاتب بين عرض الظاهرة الخارقة ونقدها دون أن يبلغ حد النقض. وفي الحالتين، نحن إزاء رواية مختلفة، محبوكة بحرفية متقدمة، ما يجعلها جديرة بالقراءة. ونحن إزاء روائي محترف يعرف من أين تؤكل كتف الرواية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة