Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قبضة "الدعاة الجدد" تنفك من على رقاب المصريين

هيمنة الفتاوى التكفيرية والمتشددة أفسدت الحياة على مدى 5 عقود وآثارها تنقشع في المرحلة الراهنة

مؤسسة الأزهر تواجه الفتاوى المتشددة من حين لآخر لتصحيح المفاهيم  (أ ف ب)

مثول "الشيخ" محمد حسين يعقوب أمام محكمة مصرية تنظر قضية ما يسمى إعلامياً بـ"داعش إمبابة" قبل أيام قشة كبيرة، ضمن كثير من القش الآخذ في قصم بعير المكون الشعبي في الإسلام السياسي. "الشيخ" المصنف "سلفياً" ذو الصيت الذائع والأثر البالغ والمكانة الأقرب ما تكون إلى القديسين في أحياء مصر الشعبية وكثير من مناطقها العشوائية وقف، أو بالأحرى جلس أمام المحكمة على مقعد متحرك، لأنه "مصاب بانزلاق غضروفي"، ليقول إنه ليس سلفياً ولا يعرف شيئاً عما يسمى بـ"الجماعات الإرهابية".

يعقوب الذي تملأ خطبه ودروسه وفيديوهاته "الدينية" الأثير العنكبوتي وهواتف العوام المحمولة وأدمغتهم وقلوبهم وسنوات تنشئتهم وما يورثونه لأبنائهم، لا سيما في القرى والأحياء الشعبية ويفتي جموع المصريين المسلمين في أمور حياتهم؛ بدءاً من علاقاتهم بجيرانهم من غير المسلمين مروراً بمن يصوتون في الاستحقاقات الانتخابية وانتهاءً بتحديد من سيدخل الجنة ومن سيشوى في نار جهنم قال، "إن قدميه لم تطأ أرض مدرسة أو معهد أو جامعة تدرس علوم الدين. حاصل على "دبلون" (دبلوم) معلمين، ولا يفتي في الدين". وأكد "أن سبب أمره جموع مريديه ومتبعيه بأن يصلوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) ويطبعوا ملايين الملصقات المطالبة المارة بالصلاة عليه نابع من حبه للنبي (صلى الله عليه وسلم)". وفي شهادته عن الفرق بين السلفي والتكفيري قال، "إن السلفي سلفي والتكفيري تكفيري". أما الجماعات (مثل الإخوان المسلمين التي تصنفها السلطات المصرية إرهابية، والدعوة والتكفير والهجرة والقاعدة) فقال عنها "إنه لا يعرف فكرها أو مضمونها، وكل ما يعرفه عن بن لادن هو ما يرد في الإعلام".

غزوة الصناديق

يعقوب وقف ذات يوم يستحلف ملايين المصريين ويأمر أتباعه بأن يصوتوا بـ"نعم" في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، التي كادت تحول مصر إلى دولة حكم ديني. يعقوب اعتبرها "غزوة للصناديق" وقال عنها محفزاً الأتباع لقول "نعم" للدولة الدينة المنتظرة، "كان السلف يقولون بيننا وبينكم الجنائز، واليوم يقولون لنا بيننا وبينكم الصناديق، وقالت الصناديق للدين نعم". ثم دعا الحاضرين في مسجد "الهدى" في إمبابة أن يكبروا تكبيرات العيد احتفالاً بالنصر الكبير الذي تمثل على حد قوله في دخول "الدين في كل الأمور" وعلى المتضرر مغادرة البلاد إلى كندا أو أميركا. كان هذا في عام 2012، لكن في 2021 وأمام المحكمة قال، "إنه لا يعرف عن جماعة الإخوان المسلمين سوى أنهم (ماليين الدنيا)"!

سنوات "التديين"

وبين دنيا يعقوب على مدى سنوات "التديين" الذي خضعت له مصر من خلال أدوات عدة أبرزها "الدعاة الجدد" منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ودنيا يعقوب في عام 2021 وبعد مرور 11 عاماً على الرياح التي هبت في المنطقة باسم "الربيع العربي"، دنيا قوامها الانكشافات وسمتها الاكتشافات.

اكتشفت مصر ذات صباح أن هواها بات متشدداً دينياً وأن خمسة عقود من نشوء وترعرع وتوسع وتوغل دولة موازية للدولة يحكمها "الدعاة الجدد" تقف في مواجهة شرسة مع تاريخها وحاضرها ومستقبلها.

"الدعاة الجدد" الذين بلغ بعضهم اليوم من العمر أرذله دولة نشأت في كنف الدولة المصرية قبل عقود. الكاتب الصحافي المتخصص في ملف الدعاة الجدد، وائل لطفي، يقول عن "ظاهرة الدعاة الجدد"، "إن النظام السياسي المصري في عصر الرئيس الأسبق الراحل محمد حسني مبارك كان في حاجة لطرح نمط جديد من الدعاة الجماهيريين لسحب البساط من تحت أقدام جماعات راديكالية عنيفة، وحتى من تحت أقدام مشاهير العلماء التقليديين مثل الشيخين محمد متولي الشعراوي ومحمد الغزالي وآخرين ممن أدانوا العنف ولكن كانت مواقفهم متفاوتة، وذلك للسيطرة على ملايين البسطاء. كما أن الأثرياء ربما كانوا في حاجة إلى رجل دين يحلل الثروات الطائلة التي تم جمعها ويطمئن قلوبهم بإمكانية التمتع بكل من الدنيا والآخرة بغض النظر عن طرق جمع الثروة".

ثروات طائلة

المفارقة هي أن مئات الدعاة الجدد الذين غزوا بر مصر الشعبي بشكل صارخ وتُرِكوا يشكلون وعي ملايين المصريين ويغيرون مسار الثقافة ويبدلون عباءة الهوية باتوا هم أنفسهم من أصحاب الثروات الطائلة، ناهيك بالتمتع بقوة الحضور الطاغي والقدرة على تحريك الجماهير الغفيرة بخيوط الماريونيت الرفيعة. باتوا هم أنفسهم من أصحاب الثروات الطائلة رغم أن مريديهم وأتباعهم لا يحملون سوى الهموم الطائلة الناجمة عن الفقر والغلب والبؤس.

فتنظيم الأسرة حرام، وطلب العلم ينبغي أن يكون بشروط، وتعليم البنات وخوضهن مجالات العمل والبحث مكروه إلا بشروط، وأفضل وسيلة لمواجهة الفقر هو الدعاء والصلاة والتضرع إلى الله لينعم على الفقير بالرضا وصفاء النفس وغسل القلب من شرور الدنيا والتركيز على نعم الآخرة.

صراخ وترهيب

لكن ما جرى في مصر على أيدي الدعاة الجدد، سواء أولئك من أصحاب اللحى المشعثة الذين يصرخون في جماهير القرى والمناطق الشعبية والعشوائية عند الترهيب باسم الدين، أو يعتمدون على حلو الكلام ومعسوله في أجواء معبأة بالعطور الفرنسية والعباءات المطرزة بآلاف الدولارات والمصاحف المرصعة بالأحجار الكريمة، هو أن ما تم غسله هو العقول.

الطبيب والكاتب الراحل، أحمد خالد توفيق، تحدث كثيراً عن غسل العقول أو غسل المخ، وقال، "إن المصطلح له أصول في الثقافة الصينية والفلسفة الطاوية ويطلق عليه (غسل القلب)، وأنه يتحتم لمن يريد أن يخضع مخ أحدهم لـ(الغسل) أن يصل بعقله إلى حالة من الإرهاق عن طريق الخوف أو التعب أو السهر أو الجوع أو الترويع قبل بدء مهمة الغسل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الغسل" الدائرة رحاه على مدى خمسة عقود أسفر عن دعاة للطبقات العليا، وآخرين لنظيرتها المتوسطة، ونوع ثالث للجماهير الغفيرة. ولكل فئة أدواتها وأسلوب خطابها وطرق الترويع الديني المقنعة لها. تشير دراسة علمية أجرتها الباحثة في قسم الإعلام في جامعة أسيوط أسماء السيد حسين، (2018) إلى "أن المصريين يتابعون مئات الدعاة ولكن يهيمن 58 منهم على رأس القائمة. وكان أبرزهم محمد حسان وعمرو خالد وأبو إسحاق الحويني وعمر عبد الكافي ومصطفى حسني ومعز مسعود ومحمد حسين يعقوب".

هيمنة على العقول والقلوب

المثير هو أن الغالبية المطلقة من الدعاة الذين يهيمنون على القلوب والعقول وأشياء أخرى لم يدرسوا العلوم الدينية، بل اكتسبوها! عشرات الدعاة الذين يملكون زمام عقول ملايين المصريين وقلوبهم في العصر الحديث "اكتسبوا" معارفهم الدينية والإفتائية عبر "التتلمذ" على يد "عالم" قد يصنفه البعض على أنه أمير جماعة أو مفتيها، وكذلك عبر الاجتهاد الشخصي في التفسير وما يتبعه ذلك من تحليل وتحريم يتبعان هوى المفسر وميوله الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

يقول وائل لطفي، "إن ثلاث سمات رئيسة تميز الدعاة الجدد. السمة الأولى هي أن هؤلاء الدعاة مهنيون، أي أن الكثيرين منهم لهم أعمالهم المستقلة التي لا علاقة لهم بـ(هواية) الداعي إلى الدين. وأغلب هؤلاء يعتمدون خطاباً بسيطاً يركز على ربط الدين بالحياة ولكن من مفهومهم الشخصي. والسمة الثانية هي تخصص جانب من هؤلاء الدعاة في الشباب والنساء ممن ينتمون للشرائح الاجتماعية والاقتصادية الأعلى. والثالثة هي تلقي أغلبهم تعليمهم الديني خارج المؤسسة الدينية الرسمية أي الأزهر الشريف، واعتمادهم على التعليم المباشر والتثقيف الذاتي أو على تلقي العلم من أحد الشيوخ في حلقات العلم. والغريب أنهم يعتبرون ذلك مدعاة للفخر".

أتباع المشايخ

يتفاخر مصريون بسطاء كثيرون بأنهم من أتباع يعقوب أو الحويني أو حسني أو غيرهم من دعاة لم يدرسوا الدعوة. صبري حسين (52 عاماً) يقول أنا من عشاق الحويني، "شكل عقلي وقلبي هذا الشيخ الجليل. هو الأقدر على توصيل المعلومات الدينية وتفسير أمور الدين للمسلمين. ولأنه غيور على دينه، فهو ينقل هذه الغيرة لمن يسمعه، وهنا تعم الفائدة وينتشر الخير، ويصبح المسلم البسيط هو من يحمي دينه ويورث ذلك لأبنائه وأحفاده".

أما سماح خيرت (ربة بيت) (38 عاماً) فقد حصرت وقصرت ثقافتها الدينية في مصدر واحد ألا وهو "الشيخ" أسامة القوصي. فهو "وجهه فيه القبول ورضا الله" وفتاواه وآراؤه تكشف عن الدين الحق ويشرح أمور الحياة بطريقة سهلة وبسيطة. وقد بلغ القوصي درجة من السهولة والبساطة جعلته يفتي بجواز تلصص الشاب على خطيبته خلال استحمامها، ليشاهد منها ما يمكن رؤيته ويجعله يقرر الزواج منها. واشترط أن يكون شرط التلصص نية المتلصص الزواج من المستحمة. وعلى الرغم من أن القوصي انتقل من الطب إلى الفتوى، فإن له ملايين الأتباع ممن يعتبرون فتاواه مرجعية وحيدة لا ثاني لها.

كلاسيكية الفتاوى

كلاسيكياً، الجهات الفتوية في مصر تقتصر على دار الإفتاء المصرية. إلا أن العصر الحديث يشير إلى تعدد مصادر الفتوى. ورؤى العين والمعايشة يؤكدان أن الفتاوى غير الرسمية ظلت تنتشر وتتوغل حتى أصبح لها اليد العليا في تفاصيل حياة المصريين اليومية.

هيمنة الفتاوى ولا سيما التكفيرية والمتشددة والمتطرفة التي أفسدت حياة المصريين على مدى خمسة عقود تنكشف آثارها وتتضح معالمها في كل ركن من أركان مصر الحديثة. وقد دعا ذلك دار الإفتاء المصرية في عام 2014 إلى تأسيس "مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة"، "تزامناً مع صعود الجماعات المتطرفة مثل تنظيم داعش وتنامي عنف جماعة الإخوان الإرهابية، وذلك إيماناً من الدار بأن هناك ضرورة لإزاحة المتطفلين على الفتوى عن هذا المجال من أجل استقرار المجتمع، لا سيما أن من يفتون باسم الدين يختطفون الفتاوى ويطوعونها لأهداف بعيدة عن الدين باسم الإسلام وبطريقة مفزعة للمجتمع والناس. وبدلاً من أن تكون الفتوى هادية إلى استقرار المجتمعات تصير أداة لإثارة القلاقل في المجتمع"، وذلك حسب ما صدر عن المرصد نفسه.

يشار إلى أن موقع المرصد يحوي عديد الأخبار المهمة التي يجري تحديثها وتتراوح بين "تأكيد يقظة الجيش والشرطة في مواجهة محاولات الاختراق من قِبل الإرهاب العابر للحدود"، و"مرصد الإفتاء يوجه التحية للشرطة في عيدها ويشيد بجهودهم في إحباط مخططات الجماعات الإرهابية"، بالإضافة إلى الإدانات المستمرة لمقتل مدنيين في إفريقيا والاتجار في النساء في آسيا غير جائز وغيرها.

تخليص العقول

جهود عدة تبذل في مصر منذ انتهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في عام 2013 لتخليص العقول والقلوب من قبضة الدعاة الجدد بمن فيهم من بلغ من العمر أرذله. لكن الفراغات الكثيرة التي نجح الدعاة الجدد في ملئها تحتاج إلى عقود من العمل والجهد غير التقليديين على أصعدة ثقافية واجتماعية وتعليمية عدة. فما أفسده دعاة هواة خارج سيطرة الدولة والقانون على مدى نصف قرن لا يصلحه مرصد أو خطبة أو تنديد موسمي بتطرف. فالمقاومة الشعبية لفكرة أن جانباً معتبراً من الدعاة الجدد أفسد عقولهم وقلوبهم وتفاصيل حياتهم عتيدة. والمؤسسات الدينية الرسمية تجد نفسها مضطرة أحياناً ليس فقط إلى مواجهة الخطر الخارجي في مجال الدعوة والفتوى والتفسير وتسيير أمور الحياة، ولكنهم أيضاً يجدون أنفسهم في مواجهة مكامن لخطر داخلي، إذ لم ينجُ إلا قليلون من آثار الدولة الموازية للدعاة الجدد على مر العقود الخمسة الماضية.

 

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات