تبدأ رواية "شقي وسعيد" (خطوط وظلال- عمان) للروائي المصري حسين عبد الرحيم بداية صادمة بقول السارد، "ماتت أمي، ماتت الصِّديقة"، مظهراً اضطرابه أمام هذا الحدث، ومتأملًا جسد أمه المسجى على طاولة من الصاج الرخيص في أحد المستشفيات. يستعيد حضورها عبر رحلة زمنية متقطعة بداية منذ كان رضيعاً ابن ثلاثة عشر يوماً ورحلة تهجير الأسرة من بورسيعد بعدما دُمِرت خلال حرب 1967، وتنقلها من مكان إلى آخر إلى أن استقرت في إحدى قرى الدلتا المصرية، لسنوات عدة لتعود مجدداً إلى المدينة بعد إعادة إعمارها عقب حرب 1973، وصولاً إلى وفاة أم البطل وهو في عمر الخمسين.
تتداخل الرؤى والأحداث في الرواية، فهي لا تسير في خط واحد متسلسل إلا في ذهن ساردها الذي يروي ما حدث بمنطقه ورؤيته وحده للعالم، ما يجعلها رواية مونولوغية، لا صوت فيها إلا صوت السارد. وهي على أية حال سمة غالبة على ما سبق أن أصدره حسين عبد الرحيم من روايات ومجموعات قصصية، نال عن إحداها جائزة الدولة التشجيعية. وفضلاً عن افتقاد "شقس وسعيد" لتعدد الأصوات، فإنها تتسم بابتعادها عن الحبكة التقليدية، فتتداخل فيها الأزمان إلى حد كبير، ويلعب فيها الزمن النفسي الدور الأبرز.
تبدأ الرواية كما أشرنا بالبطل "الحسين"، أمام جثمان والدته في المستشفى، وتنتهي بالمشهد ذاته. وما بين البداية والنهاية أحداث ومشاهد غير مرتبة تصدر من عقل مشوش، يختلط فيها الواقع بالأوهام. وربما يفسر ذلك ما يكشف عنه السارد من تناوله عقاراً ذا تأثير مخدر فور رؤيته جسد أمِه الممدد: "تسمرت قدماي في مكانهما، أتحرك بوهن، أدعك عيني، أرمي بنصف قرص من الترامادول في فمي بلا ماء، ينزلق نصف القرص فتشتد عروقي بتيارات هوائية كاسحة..." صـ 152.
الراوي المتشظي
نحن في البداية أمام الطفل الرضيع الذي يروي الأحداث بنفسه، "عمري ثلاثة عشر يوماً. ملفوف في قُمَاط وردي تفصله عن لحمي قطعة قماش من ستارة قديمة محبوكة على وسطي حتى ربلتي ساقي النحيلتين. أتنقل بنظراتي الخائفة في اتجاهات شتى، رأيتُ أبي يجري في جلباب كشمير رمادي يمسك برشاش بورسعيد...". وهكذا يتكلم السارد الأوحد في كثير من تفاصيل الرواية بلغة ومفاهيم أكبر من المرحلة العمرية التي يعيشها. فإذا كان من مواليد 1967، فإنه كان في العاشرة من عمره عندما عادت الأسرة إلى بورسعيد، إلا أن الأحداث تظهره حينئذ في صورة المراهق الغارق في الأوصاف الحسية للفتاة التي أحبها "أم هاشم"، فيقول لها، "سأقبلُ بطنَك وأضع رأسي فوقها وتهبطين علي بوجهك البديع لتقبليني، تضمني ذراعاك هاتان البلورتان، فأشتم رائحة نشاء وحمض تسري بسيل من خَدَر نشوان من رضاب ينزلق في حلقي وروحي فتحضنينني...".
ويعد التشظي سمة بارزة داخل هذه الرواية في أحداثها وزمنها. حتى السارد نفسه يشعر أنه خمسة أشخاص في شخص واحد، لا يقينية في ما عاشه، لا يستطيع أن يفصل بين الواقع والخيال في حياته، "أسأل نفسي في خرس هل عشت حقاً أم أنها أحلام وغاصت في كوابيس زمن آخر عاشه غيري في رحلة طويلة تتكرر تفاصيلها في كل عِقد؟ أظنها كانت حيوات أخرى لبشر يشبهونني".
تتميز رواية "شقي وسعيد" بلغتها ذات الطابع الشعري، وتزخر بشخوص كثيرين، إلا أن حضورهم لم يكن بقوة حضور السارد الرئيس "الحسين"، غير المهتم سوى بالحديث عن نفسه ورصد مشاعره تجاه العالم، وتجاه ما يحدث فيه وفق رؤيته هو. وتطرح الرواية تساؤلات حول العلاقة بين الأم والابن، ما يستدعي للوهلة الأولى مسرحية "أوديب ملكاً" لسوفوكليس. إلا أنه في "شقي وسعيد"، يحيل العلاقة بين البطل وأمه لموقف شبيه، بين ما كان من عمرو بن كلثوم وأمه ليلى التي صرخت "وا ذُلاه"، فما كان منه إلا أن استل سيفه، وقتل شخصاً حتى دون أن يسأل عن سبب تلك الصرخة.
الروح نفسها تتلبس الطفل الرضيع الذي يحكي حين سمع صرخات أمه التي تعرضت لمضايقات جنسية في معسكرات التهجير، عن أنه يتمنى أن يكون كبيراً كي يقتل مَن جعلها تصرخ، وبعدها يسألها عن سبب صراخها... "لو مضى بي العمر والسنين، لو بلغتُ من الحكمة والتريث والجبروت والدهاء والجرأة ما هو مخزون بوفرة عند جدي ومن الغشم القليل أو الكثير القابض على روح أبي حسانين، لقتلتُ سائح البلطي وصرخت في أمي أسألها عما حدث".
تعتمد الرواية في بنيتها الأساسية على تلك العلاقة ما بين الابن والأم خلال رحلة طويلة امتدت إلى خمسين عاماً، بحضور مركَّز للأم لا يقطعه سوى استحضار ذكرى الفتاة القروية "أم هاشم" التي أحبت "الحسين"، وكان اسمه آخر ما نطقت به قبل موتها في المستشفى بعد تعرضها لاغتصاب وحشي، ومن ثم تخرج الأم من المتن إلى الهامش.
جو النكسة
لم تكن نكسة 1967 حدثاً عابراً في تاريخ العالم العربي الحديث، فهناك كثير من المسرحيات التي تعاطت معه بشكل مباشر، ورصدت معاناة المهجرين، وكذلك سلطت القصص القصيرة والروايات الضوء على تأثيرات تلك الهزيمة. ومنها ما قدمه إحسان عبد القدوس عن أوضاع المهجرين من المدن التي تعبرها قناة السويس في مجموعته "الهزيمة كان اسمها فاطمة"، ومنها (أي الهزيمة) تبدأ أحداث راوية "شقي وسعيد"، حيث هلع الأهالي وفرارهم إلى المخابئ لتحميهم من الغارات الإسرائيلية... "أمي تلملم حاجياتنا، ملابس رثة وأخرى نظيفة، طاسات وحلل وأوعية مبتلة. الصراخ هو كل ما أذكره، ومعه ذعري ووضع كفيَّ الصغيرتين على أذني في هلع". وهنا تجدر الإشارة إلى أنه سبق لحسين عبدالرحيم أن عالج أثر تلك الهزيمة في غير عمل روائي وقصصي له، منطلقاً من مسقط رأسه، بورسعيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تستعرض "شقي وسعيد" مراكز إيواء تم ايواء المهجرين فيها، منها غرف مدارس وضعوا في كل غرفة منها عشر أُسَر، تمهيداً لتوزيعهم على قرى ومدن بعيدة نسبياً عن خط النار. وهناك كانوا ينادون من قبل الأهالي الأصليين باسم المهجرين: "يا أم هاشم تعالي شوفي الحسين ابن المهجرين".
وترصد الرواية كذلك بعض العادات مثل رش العدس المطبوخ في جنبات المكان الذي مات فيه شخص محروقاً، أو مات في حادث سير، حتى لا يضايق شبحه الناس، والرؤية الشعبية لجمال عبدالناصر وتحميله وِزر الهزيمة، والرؤية السلبية للسادات.